كنت في عهد الطلب على رأس جمعية من جمعيات الثقافة بجامعة أم درمان الإسلامية الزاهرة، لعلها كانت تدعى جمعية البحوث الأدبية، وقد اتفقنا في مجلس إدارتها على أن ندعو الزعيم الكبير، والأديب الأكبر، محمد أحمد محجوب، ليحاضر طلاب الجامعة وضيوفها، في موضوع أدبي مختلط بالشأن السياسي. كان ذلك قبيل وفاته بعام رحمه الله.
ترحيب بالدعوة والدعاة:
ذهبنا إليه في داره بالخرطوم، وكنت برفقة صديقيَّ، في قيادة الجمعية، الأخ الكريم العباس أبا صالح، من أهالي العيلفون، والأخ الكريم الصديق المهدي من أهالي حفيرة بكردفان، وقدمنا إليه أنفسنا، وعرفناه بغرضنا، فوافق عليه دون تردد، بل رحب به، وتلهف عليه.
فقد كان، رحمه الله، فيما بدا لنا في أشد الحاجة إلى أن ينفث بعض ما يجول بخاطره من شجن، بعد أن سكت عن القول على المنابر أكثر من ست سنين حسوما من سنين القهر المايوي!
ذهبنا إليه بغير ميعاد، واستأذنا فأذن لنا سراعا، وأدخلنا عليه، حيث كان جالسا في غرفة مكتبه، الملحق بصالون الدار، وهو في أبهى حلة وأجمل وقار، وإن كان المرض قد نال منه نيلا بليغاً بعد أن نابته من القلب عدة نوبات.
واعتذر لنا في معرض حديثه عما ألمَّ به من ضعف بسبب الداء وعلو السن كما قال. وهو شأن محزن، جد محزن، لاسيما لمن كان من طراز الفرسان الصِّيد كمحجوب!
رحب بنا كثيراً وأدنانا إليه، وسألنا عن قُرانا، وعرفها على اختلافها وتفرقها في الأمصار، وذكر أن عمله القضائي قد أعانه على معرفة مختلف الأرجاء والأصقاع، وربما كان ذلك هو الدافع ذاته الذي أحيا في خاطره فكرة كتابة مؤلفه القيم الرائد عن (الحكم المحلي في السودان)، الذي كان من أول من دعا إلى تطبيقه، ويشهد له بذلك كتابه هذا الذي صدر قبل أكثر من ستين عاما من يوم الناس هذا!
جيل النهضة جهاده وأدبه:
ورغم الفارق الثقافي الهائل بينه وبيننا كطلاب صغار أغرار، إلا أنه عاملنا بتقدير واحترم وإكبار، وجلس على كرسي متحرك، يمكنه من التقاط الكتب من مكتبته، وطفق يقرأ علينا قراءة عميقة الصوت لبعض الأشعار التي نظمها شعراء الجهاد الوطني، من أمثال صالح عبد القادر، وتوفيق صالح جبريل، ومدثر البوشي، وغيرهم ممن تفرقت أشعارهم في الفصول الحلوة المشتهاة التي نثرها حسن نجيلة في تصوير (ملامح من المجتمع السوداني).
وبين الفينة والفينة جاد بتعليقات على ما احتوته تلك الأشعار من الإشارات القومية والوطنية، وعلاقتها بالأحداث التي دارت حينها, وهذا مما كشف لنا عن شغفه الشديد بآثار تلك الفترة، التي يصح أن نسميها فترة الصحوة الوطنية، التي أطلت بعد نحو ربع قرن من إخماد الثورة المهدية، واتسمت بأن سبقتها ورافقتها صحوة فكرية وأدبية كبيرة، كما هو المعهود دوماً في
تاريخ الصحوات والثورات.
ومن هنا قلت له ما رأيك أن يكون عنوان المحاضرة (جيل النهضة: جهاده وأدبه) فوافق على الفور، ولم يغير من العنوان كلمة ولا حرفاً، فزاد احترامي له كثيراً، ذلك أني كنت ألحظ، بل ما زلت ألحظ، على الكثيرين من الكبار، والمتكبرين، أنهم يُبدون لك الرأي المعارض لرأيك، ويتطلبونه، ويعتسفونه، في غير ما داع، ولا طائل، ولا يبغون من وراء ذلك، إلا أن يثبتوا لك أنهم أدرى منك وأخبر بما تفكر فيه وما تقول!
سلطة الجهل المسلح:
طالت جلستنا معه، واستمتعنا كثيرا بحديثه العذب، وبالسخريات التي كان يطلقها على ضباط العهد المايوي، الذين كان يطلق على حكومتهم اسم سلطة الجهل المسلح، وقال فيما إنهم مجموعة شبان جهلة يخشون الفكر والرأي والعلم، وقال إن جهاز أمنهم (القومي!) رفض أن يسمح له بأن يدخل عدة نسخ من كتاب ذكرياته الذي كان صادراً لتوه (الديمقراطية في الميزان) إلى السودان!
ومن استغراقنا في الإنصات له بدا لنا جيداً، وإن كان ذلك بادياً من قبل، أنه زعيم مفكر يحلق دائماً في أفق سياسي قومي عال وضئ، وأنه ليس من قبيل غالب السياسيين السودانيين، من العامة، الذين لا يقرأون كتاباً، ولا يطالعون صحيفة، ولا يفهمون خلفيات ومرامي ما يسمعونه في المذياع، ولا ما يشاهدونه على التلفاز!
فهو من عيار مختلف عنهم تمام الاختلاف، ذلك أنه كان رجل فكر قبل أن يكون رجل السياسة، ولم تكن السياسة عنده إلا من قبيل الوطنية والحكمة ومعالي الأمور.
وهذا مزيج فكري ونفسي و(كارزمي) فريد، توفر له دون غيره من زعماء الجيل الماضي، وكان خليقاً أن ينشئ فيه زعيماً تاريخياً ضخماً كنهرو أو جناح، ولكن مكائد الحزبية الطائفية كانت له بالمرصاد.
الإعلان عن المحاضرة:
اتفقنا على شأن المحاضرة، كما اتفقنا على كتمان سرها، ولم نذع إعلاناً عنها إلا قبيل موعدها بساعات، حيث علقنا إعلانات قليلة بأماكن بارزة في ما كان يسمى بالمحطة الوسطى بمدن العاصمة الثلاث، وميدان الأمم المتحدة، والجامعات الثلاث، لأننا كنا نخشى أن تقدم بعض الجهات على التدخل وتعطيل المحاضرة، أو إلغائها، وذهبنا من ثم إلى دار المحجوب لنصطحبه إلى دار الاتحاد، حيث تقرر أن يخاطب الناس لأول مرة منذ أن أزيح عن الحكم.
استقبلنا المحجوب بترحاب وابتهاج، وسأل عدة أسئلة عن الترتيبات التي أعددناها، وعن مكان اللقاء، وأين يقع دار الاتحاد، فأجبناه أن دار اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية يقوم في موازاة الإدارة المركزية، ولمزيد من الإيضاح قلنا له إنه في نفس الدار التي كان فيها المركز العام لحزب الأمة بأم درمان، فقال إنه يذكر جيداً ذلك المكان.
وما سأل المحجوب عن موقع دار الاتحاد إلا لأنه كان يعد لأمر آخر، ليس لنا به من علم. ثم طلب من ابنه أن يحضر لنا سيارة أجرة، ودفع لسائقها ثلاثة جنيهات، طالبا إليه أن يوصلنا إلى دار الاتحاد بأم درمان، وأخبرنا أنه سيأتي إلى مكان المحاضرة بعد قليل!
فزدني أخبارا وحدثني يا سعد:
من داره انطلق المحجوب إلى المقرن، حيث يسكن الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب، وأتى به معه إلى دار الاتحاد. ومذ وطئت قدما المحجوب مدخل دار الاتحاد انطلق التصفيق الداوي يرحب به. كانت القاعة قد امتلأت عن بكرة أبيها بالحضور قبل وقت طويل من حضوره، وهذا ما أدهشنا ونحن نعود من دار المحجوب.
ومن مدخل الدار شق طريقا شاقا إلى منصة الخطابة، وحيا النَّديَّ، ثم جلس لهنيهة ريثما هدأ التصفيق، ثم قام من غير أن يقدمه أحد أو يدعوه، وألقى بيتاً واحداً من شعر العباس بن الأحنف، وجلس، وهو البيت القائل:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني غراماً فزدني من حديثك يا سعدُ!
وألهب البيت التراثي مشاعر الحضور فضجوا بالتصفيق من جديد.
وبعد كلمة تقديم لائقة عاد المحجوب إلى المنصة، فألقى محاضرة شاملة مكتوبة بلغة جميلة متدفقة، كان قد أطلعنا على مقدمتها ونحن في داره، وأكثر فيها من الحديث عن جهاد جيله في مجالى الأدب، والفكر، والعمل الوطني.
وكرر معالم أطروحته عن التوجه المستقبلي العربي الإسلامي لبلاد السودان، وناوش الحكام المايويين قليلا معرضا بشنائع أفعالهم، وألقى شعراً جذلاً معجباً، وكانت ليلة فريدة من ليالي الدهر سعدنا بها أيما سعد.
ولما انتهى المحاضر من إلقاء محاضرته حياه الجمهور بعاصفة أخرى من التصفيق المطرب، ففد كانت النشوة الأدبية الوطنية العارمة قد خالطت خوالج النفوس. واعتور المنبر بعده خطباء كثر، أبوا إلا أن يغتنموا دقائق في تلك السانحة الفريدة، ليحيوا فيها المحجوب ويكرموه.
وأخذ شاب متحمس يترنم بشيئ من أبيات (البائية)، وهي من شعر المحجوب الباكر، فرنح أعطاف الناس بطيب شعر الغزل الجموح، واجتاح الطرب فيمن اجتاح الشاعر نفسه، ولكنه هدأ نفسه، وأشاح بيده إشاحة لطيفة، تذكر بتذكُّر شعراء الغزل وتحسرِّهم على تصرُّم أيام الصِّبا وتخرُّم عهود الشباب.
ما بين المحجوب والمجذوب:
ومما خفي علينا من سبب ذهاب المحجوب إلى دار المجذوب، أنه قصد إليه ليأتي به معه، لكي يصفي معه حساباً شديداً أمام الحضور.
فبينا بقي المحجوب، وهو رمز كبير لأصالة الشعر العربي، طريداً معزولاً في عهد النظام المايوي الباغي، تنازل المجذوب عن مقامه الأدبي السامي، وتودد إلى المثقفين من زعانفة اليساريين المايويين المتفسخين، مثلما كانوا يتوددون إليه، إذ حسبوا أنهم قد كسبوا إلى جانب فسادهم ولغوهم الشعري (الحداثي) رمزا كبيرا من رموز شعر الفصحى!
وربما أوحى المحجوب إلى المجذوب أن يعلق على محاضرته، أو لعل المجذوب بادر بذلك، وهنا سنحت الفرصة للمحجوب لينقض عليه بهجوم عنيف ضار هزه به هزاً بليغاً، وأكثر في السخرية مما قال، ووصفه بكثير من النعوت الشائنات.
واندهش الحضور كما اندهش المجذوب نفسه لهذا الطور الطارئ من أطوار المحجوب، وطلب المجذوب الكلمة مرة أخرى ليلطف الجو، وتطوع فأشاد مجددا بالمحجوب، ولكنه أقحم لغير ما سبب واضح اسم الشاعر الناقد المعروف حمزة الملك طنبل في القول.
وعند ذلك طلب المحجوب أن يرد عليه، ورد بحدة شديدة مخاطباً الحضور: لقد نسيت أن أحدثكم في ما حدثتكم به من ذميم صفات المجذوب، صفة واحدة من أسوأ صفاته، وأشنعها، وهي أنه رجل خبيث، فإنه ما أتى على ذكر حمزة الملك طنبل، إلا ليستفزني فأهجم عليه، لأنه كان قريباً من الإنجليز، ولأنه دعا إلى الكتابة بالعامية.
ومع أنني هجمت وما زلت أهجم على كل من والى ويوالي الإنجليز، وعلى كل من دعا أو يدعو إلى الكتابة بالعامية، إلا أنني لن أهجم على حمزة الملك طنبل هذا المساء، حتى لا أرضي نزعة هذا الشخص الخبيث!
فتجاوز يا إلهي واغفر:
ولما زعم المجذوب في كلمته أنه قد ضمن لنفسه دخول الجنة، مذ فرغ من نظم خريدته في مولد الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، تلك التي مستهلها:
صل يا رب على المدثر
واعني يا إلهي وانصر
فزماني ولعٌ بالمنكر
رد عليه المحجوب قائلاً: من جانبي أضمن لك أنك لن تدخل الجنة أبداً بسبب من قولك لقصيدة شعر!
وهكذا دار الجدل بين القطبين الأدبيين الكبيرين. كان سجالاً أدبياً اختلط فيه المزاح والمداعبة، بالحدة والجد، وهو من قبيل هَرَج الأدباء ورفثهم، وقد كلاهما كان مخطئاً في الرجم بالغيب، بلا ريب، وفي التقوُّل على الله تعالى بغير علم.
ولكن المجذوب كان مع ذلك قريباً من حقيقة شرعية، ربما لم يكن يدركها، وهي أن الله تعالى يختم للصادقين بخير، وإن لم يكن الصلاح هو غالب ما أتوا في حياتهم من أعمال، هذا ما دامت محبة الله تعالى، ومحبة رسوله، ومحبة دينه، ومحبة عباده الصالحين، قد استكنَّت منهم في القلوب.
فمن الناس من يكفل أيتاما حسبة لله تعالى، ولا يأتي غير ذلك خيراً كثيراً، ولكن الله تعالى يختم له بخير، ويغفر له ذنوبه بهذا الخير الذي غمر ما أتي من شر.
ومن الناس من هو مخطئ مسرف، ولكنه يغوث اللهفان، ويشهد بالحق، ويتجافى عن الزور، وينصر الضعيف، ويتورع عن الغيبة، ويترفع عن المراء، فيختم الله تعالى له بخير.
روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أحمد بن عبدالله بن يونس، حدثنا زهير، قال حدثنا منصور عن ربعي بن جراش، أن حذيفة حدثهم قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:” تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكَّر. قال: كنت أداين الناس. فآمر فتياني أن ينظروا المُعْسر ويتجوَّزوا عن المُوسِر. قال: قال الله عز وجل: تجوَّزوا عنه “.
وروى الإمام البخاري قطعة من هذا الحديث النفيس، عن هشام بن عمار، قال حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا الزبيدي، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله: أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى مُعْسراً قال لفتيانه تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه “.
فنسأل الله تعالى أن يتجاوز عن المجذوب، وعن المحجوب، وعنا، وعن المسلمين أجمعين، آمين آمين.
دعوة عبد المجيد عابدين:
وكان هنالك رجل آخر توعده المحجوب في حديثه معنا بأشد العقاب، وهو مدير جامعة أم درمان الإسلامية حينها، الدكتور عبد المجيد عابدين، وكانت سلطة مايو (هكذا كنا نسميها حينما كنا طلاباً!) قد أتت به مديراً للجامعة في أعقاب ثورة شعبان.
وللمحجوب معه مناوشة قديمة لم يفرغ من حسابها منذ أول أربعينيات القرن الماضي، حينما ألقى المحجوب محاضرته التاريخية العظيمة بعنوان (الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه؟)، وتنبأ فيها رغم وجود الإنجليز وتسلطهم على البلاد، وذيوع التغريب في أجوائها، أن تتجه الحركة الفكرية السودانية توجها عربياً إسلامياً، لا يتنكر لمنجزات وحقائق الفكر الغربي. وهذا ما خالفه فيه الدكتور عبد المجيد عابدين، الذي تنبأ بتوجه البلاد توجهاً غربياً خالصاً.
وعندما استدار الزمان كهيئته يوم ساد الإسلام بلاد السودان، جاء بما صدَّق نبوءة المحجوب، وكذَّب نبوءة عابدين ورهطه، وكان ذلك مثار اغتباط عظيم لدى المحجوب، ومثار سخطه على من عارضوه، وشغبوا عليه، فأراد أن يؤدب واحداً منهم، ويجعله أمثولة للناس، هو مدير جامعتنا، فطلب إلينا أن نقدم إليه دعوة لشهود المحاضرة، حتى يصب عليه مثل ما صب على المجذوب من التبريح الأليم.
رهان عبر الزمن:
استفاض المحجوب في محاضرته الخاتمة، في دار اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، في عام 1975م، في تأكيد فرضيات محاضرته القديمة، بعنوان (الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه؟) التي قدمها بدار الثقافة بالخرطوم، في عام 1940م، ونشرها فيما بعد في كتابه القيم (نحو الغد). وأهم ما ورد في المحاضرة القديمة المستعادة أن الأثر العربي الإسلامي في البلاد، أثر قديم راسخ غير متقادم ولا متبالٍ، وأنه سيبرز ويتعالى ويسطع ضؤه مع تيقظ الحس الوطني، وترقي حركة النهضة التعليمية والأدبية في البلاد.
وما كان رجل من أرباب الجهاد الوطني القومي الصادق من أمثال محمد أحمد محجوب ممن تخفى عليهم مثل هذه الحقيقة الأكيدة. وما كان لأمثاله من المتعلقين بمُثل الثورة المهدية، التي هي مُثلٌ إسلامية عربية في الصميم، ممن تجوز عليهم الخديعة الثقافية التغريبية الطارئة، التي تأزمت في زمن المحنة الاستعمارية، فيصدقوا أن عملية (الأسلمة) الطويلة المحكمة التي شملت الفضاء السياسي، والعلمي، والثقافي، السوداني، في عهد الثورة المهدية، يمكن أن تَجُبُّه أو تحيط به أو تحبطه أربع عقود من عهد الحكم الاحتلالي الإنجليزي.
ولذلك لم يتردد قط وهو الملم بعبرة ذلك التاريخ العريق، وهو أشد أهل ذلك الزمان بصيرة، وثقافة، وعارضة، ولساناً، أن يعلن عن قناعته ونبوءته بألفاظ صريحة لا مواربة فيها، ويؤكد أن الثقافة العربية الإسلامية هي قدر هذه البلاد، الذي لن تنفك عنه، مهما بدت المخاوف الآنية رهيبة، ومهما بدت كثيفة على السطح الثقافي والسياسي رغوة دعايات التغريب.
وقد جعل المحجوب من نبوءته تلك رهاناً مع خصومه عبر الزمن.
ولا شك أن مرور أكثر من ثلث قرن على بروز فكرة ما، لَوقتٌ كافٍ لاختبار مصداقيتها وجدواها. وقد دلت تلك الحقبة الطويلة على صدق ما تنبأ به المحجوب، رغم غرابته التي حيرت بعض أمضى أذهان معاصريه النُّجب.
ويبدو أن ما تنبأ به المحجوب كان أمرا مستغرباً، ومستبعداً جداً، من قبل مراقبي ظواهر الحركة الفكرية السودانية، في الحين الذي أفصح فيه عن نبوءته، ولكن المحجوب كان مفكراً تأملياً ثاقب النظر، ولم يكن من قبيل أنصاف المفكرين والمثقفين والأكاديميين السودانيين أصحاب الدعاوى والشعارات العِراض.
ويبدو أن ما تنبأ به كان مستغرباً، ومستبعداً جداً، حتى من أنصار العروبة والإسلام في السودان، فقد كانوا في أشد الإشفاق عليها، والجزع من المحاولات الاستعمارية، الدائبة، المتوجهة لطمس أصول ومعالم الثقافة العربية الإسلامية في السودان.
ولكن المحجوب لم تكن تحركه الانفعالات والعواطف، وإنما كان يستقرئ درس تاريخ الفكر والحضارة، ويدرك بعين البصيرة بعض سنن الله العميقة في الأنفس والآفاق. وكان مع ذلك جريئاً في طرح قناعاته الفكرية، ولا يأبه بمعارضة خصومه واستخفافهم بما يقول.
باحث قليل الاستبصار:
وأما الدكتور عبد المجيد عابدين، فقد كان هو الآخر باحثاً كبيراً، ما في ذلك أدنى شك، ولكن استبصاره واستشرافه للتاريخ، كان أقل بكثير من وعيه بالمعلومات المفصلة المدونة، وبمدد الأمثلة القاصرة التي يتعاطاها من الكتب، وحقائق الحياة الاجتماعية السطحية بمظاهرها المتواترة المتظاهرة الخداعة، ولذلك ظن أن حركة التغريب قد تأصلت في مؤسسات التعليم، والإدارة الحكومية، وأصبحت قدر البلاد الذي لن تنفك عنه أو تحيد!
ورَغم عيش الدكتور عبد المجيد طويلاً جداً في السودان، ورَغم حبه العميق لهذه البلاد، كشأن زملائه العلماء المصريين المخلصين الكثيرين الذين عملوا في التدريس الجامعي ببلادنا، إلا أنه لم يكن من طينة هذه الأرض في الأصل، ولم يرضع لبان ثقافتها وهو صغير، وهذا ما مَازَ عنه المحجوب، الذي عجم أصالة أهل البلاد، وخبر جوهرهم، عن طول عهد، ولذلك لم يصدق قط أن ركائز ثقافتهم العربية الإسلامية، يمكن أن تتصدع، أو تتقوض، أو يطغى عليها زبد التغريب.
ومهما يكن فقد كان نبوءة الدكتور عبد المجيد عابدين فيما يتصل بالتطور الثقافي السوداني، نبوءة علمية بريئة نزيهة، استندت إلى بحث أكاديمي، واسترشد صاحبها في تأييدها بمؤشرات فكرية، وأدلة اجتماعية سياسية، ظنها أكيدة، صادقة، ولكنها كذبت ظنه وخيبته.
وربما يكون الدكتور عبد المجيد عابدين قد تخلى عن قناعته تلك فيما بعد، وإن لم يعلن عن تخليه عنها جهاراً فيما نعلم. ولكنه من الناحية العملية قد أقلع قطعاً عن تأييد تلك النبوءة وعن التبشير بها، لاسيما بعد ما رأى قوة اندفاع البلاد في تيار العروبة والإسلام. وهذا موقف لينٌ لم يغتفره له المحجوب، ولذلك طلب أن نحضره ليمثل أمامه في محكمة صاخبة من المحاكمات الفكرية ذات الدوِيِّ.
أجْفَل من العِراك:
ذهبنا إلى مدير الجامعة بمكتبه، نحمل إليه خبر المحاضرة، التي سيلقيها محمد أحمد محجوب، مساء ذلك اليوم، بدار الاتحاد، وقدمنا إليه دعوة منا، لا من المحجوب، لشهود المحفل، وأخفينا عنه ما كان المحاضر يضمره له من كيد ومكر خفي، ولكنه لم يكن أقل مكراً من المحجوب، إذ تظاهر بقبول دعوتنا، ووعد بأن يلبيها، فيظهر في المكان والزمان الموصوفين، غير أنه أخلف وعده، وتغيب، ونجا من سياط لاهبة، كان المحجوب يعدها لكي يدمي بها قامته الفكرية الأدبية الرفيعة التي يعتد بها.
ولربما أجفل مدير الجامعة من اللقاء فَرَقاً من سطوة المحجوب، كما ظننا آنذاك، ولربما خيل ذلك الأمر للمحجوب نفسه.
ولكن ربما اختار مدير الجامعة أن يتغيب، لحكمة ارتآها، حيث لم يرد أن يزج بنفسه في شأن سوداني، في وقت خصام عصيب، حرج، بين طوائف الشعب من جهة، وحكومة مايو من جهة أخرى، فاتخذ بذلك موقفاً دبلوماسياً سليماً حكيماً، خاصة وأنَّا، معاشر الطلاب، كنا ننظر إليه بغير عين الرضا، وكنا نحسبه ممثلاً لأهواء السلطة المايوية، ومنفذاً لإرادتها في المجتمع الأكاديمي.
وفي كل الأحوال فإن عدم تحركه لإلغاء المحاضرة، وعدم إحاطته للجهات الأمنية بخبرها، وعدم تحريضه للدولة على تعطيلها، عددناها مأثرة منه حمدناها له.
وزاغ منصور خالد:
وشهد المحاضرة من قادة التيار الثقافي الإفريقي، الأستاذ الكبير النور عثمان أبكر، رحمه الله، ونال فرصة للتعقيب على حديث المحجوب، وجاء خطابه متزنا أعرب فيه عن فكرته الداعية إلى تأصيل الثقافة الإفريقية في السودان، وتحدث بتهذيب وتعقل، من دون أن ينازع المحجوب في فكرته عن العروبة، إذ ليس بين الفكرتين نزاع من حيث التأصيل.
وزاغ عن شهود المحاضرة أرباب الزيغ، وعلى رأسهم الدكتور منصور خالد، صاحب النخبة الفاشلة، والسفاه الذي لا حلم بعده.
ومع أنا لم ندعه للمشهد، إلا أنا كنا نتمنى أن نراه في النَّدِيِّ.
تراكمت أوزار منصور خالد، وإصره، وأغلاله النفسية، ولا تزال تتراكم، وتتثاقل، وتثقل كاهله، وتنقض ظهره. فقد تتلمذ قديماً على محمد أحمد محجوب في مهنة القانون، ولكنه بما عرف عنه من قلة وفاء لمعارفه، وغدر بأصدقائه، تنكر له وجفاه.
وزادت رزايا منصور خالد ثقلاً، بانخراطه في خدمة النظام الديكتاتوري، نظام ضباط الجهل المسلح، الذين أطاحوا بالمحجوب عن رئاسة الوزراء.
وتفاقمت جرائر منصور خالد بتوليه عبء الدفاع الخطابي، والكتابي، المتطرف، عن هذا النظام الفاسد، وسب خصومه الشرفاء، في الساحات والمحافل الخالية، التي يسهل عليه فيها أن يمارس الطعن والنزال!
حيث لم يكن الدكتور منصور خالد من شاكلة الرجال الفرسان، الذين يمكن أن يثبتوا لمنازلة المحجوب ومقارعته. وجبن عن لقائه، حتى وهو شيخ مريض مهيض. ولم يأت لشهود تلك الليلة ذعراً من حضرته، وهيبته، وجسارته، واستعداده الأكيد، الناجز، الماضي، وعدم تردده في تهشيم خصومه، اللُّدِّ، المراوغين، من أمثال منصور خالد.
وهكذا آب منصور خالد إلى خليقته وسجيته، وفضَّل أن يتماشى، ويتماهى، مع شيمته الشخصية، الملازمة له، أبد العمر، تلك الشيمة التي لا تمت إلى المروءة بصلة، ولذلك انتظر المحجوب حتى انقضت أيامه في الدنيا، ثم أتي ليتخرص عليه، ويحشد في أفقه التاريخي، الدعاوى، الخائرة، البائرة، التي هي محض أكاذيب!
هذا زمانك يا مهازل فامرحي:
وهكذا بقي منصور خالد صامتاً، ثم جاء بعد ربع قرن من وفاة المحجوب، فألقى محاضرة عنه، بلندن، ناقش فيها دعوته ونبوءته الثقافية، التي لم يتجرأ قط على مناهضتها قبل وفاة صاحبها، ولكنه جاء بعد ذلك ليقول عنها قولا نكرا، زاعماً أن فيها :” ما يرقى إلى هيمنة عنصرية ثقافية ” .!!
نعم، والله، إلى هذا المدى في التجرئ، غير المتحري، ذهب منصور خالد، بعد أمن بأس المحجوب وشدته، إذ غيبه الردى. فجعل يطيل عليه من اللجاجة في الخصام، ويصاول مقامه الفكري العليِّ، ويزور كلامه البيِّن الفصل، ويدسُّ فيه ما لم يتضمنه من سقط القول. كل ذلك ليمهد لمناوشته بشعار (التهميش) الرائج ابتذاله في هذه الأيام، من قبل العنصريين ودعاة التمرد والتخريب.
التَّزيُّد على المحجوب:
قال منصور خالد، وهو يعبث بكلام المحجوب، ويتزيد عليه، ويضاعف له في الذم:” في تلك المحاضرة أكد المحجوب أن الثقافة السودانية (المميزة) يجب أن تقوم على الموروث العربي الإسلامي مدعوما بفكر أوروبي بهدف تطوير أدب وطني حقيقي يستمد شخصيته وحياته من تقاليد شعوب هذا البلد ومن صحرائه وغاباته، وكلمة(مميزة) ربما أراد بها المحجوب تمييز هوية الثقافة السودانية عن المصرية وبقية البلدان العربية الأخرى، ومن هنا يبدو أن المحجوب كان يعي تماماً خصوصية الثقافة السودانية، ولكن عندما أراد الإسهاب في هذا الموضوع أشار فقط الى نقطتين تاريخيتين هامتين: الأولى هي الماضي البعيد والذي حسب رأي المحجوب، تأثر (بالوثنية والحضارة الفرعونية والأديان السماوية الأخرى) والثانية هي (العروبة الإسلامية) وصرف نظره عن النقطة الأولى فيما يشبه المحو والتجاهل في حين أسهب في مسألة العروبة الإسلامية قبل أن يعرج على مساهمة الفكر الأوروبي المزعومة على الثقافة السودانية.
أما التأثير التاريخي والمعاصر للثقافات الإفريقية الأخرى على الهوية الثقافية السودانية، فقد كانت طي النسيان في تلك المحاضرة، ولكن إذا تم تجاهل الآثار التاريخية النوبية والمسيحية، لماذا نتوقع من المحجوب أن يلتفت إلى الثقافات الإفريقية المعاصرة، ولكن مرة أخرى لماذا رسم المحجوب وكل المثقفين الشماليين على أيامه مثل هذه الخارطة الناقصة المعيبة للثقافة السودانية ” . وهكذا تطاول منصور خالد على المحجوب، مستخلصا من كلامه، أنه يتعالى على جزء من ماضيه، وكأنما كان المحجوب ملزماً بتقرير ما يقرره منصور خالد، وغيره من وكلاء الغزو الفكري الصليبي والتغريبي، من ضرورة إرجاع المسلمين إلى ماضيهم قبل الإسلام!!
لقد ذكر المحجوب ذلك الماضي الآفل، ولم يتجاهله، واكتفى بإعطائه قيمته الحقيقة، وهي قيمة تاريخية متقادمة، وليس لها تأثير كثير على الحاضر، اللهم إلا عند دعاة التنظير الإيديولوجي، غير العلمي، من أمثال منصور خالد، وزمرته من المناوئين للعروبة، وثقافتها، هؤلاء الذين يزوِّرون صورة الحاضر، ويزوقونها، لتتماشى مع ما في أذهانهم الكليلة، من صور التاريخ الوثني البعيد.
التحريض على الشماليين:
وزاد منصور خالد على ذلك فافترى على المحجوب أنه بالرغم من أنه كان على المستوى الثقافي:” مؤمناً راسخ الإيمان، بالديمقراطية وكان مدافعاً غيوراً عن المساواة والعدالة، لكنه كان أيضاً المدافع الناطق بوضوح عن الاستراتيجية الشمالية الشائعة وهي أسلمة وتعريب الجماعات الإفريقية غير المسلمة في السودان كي تتم الوحدة ” .
وكدأبه في إشعال نيران الفتن ونشر مشاعر الكراهية، وتأليب غير المسلمين على المسلمين، وتهييج الجنوبيين على الشماليين، زعم منصور خالد أن المحجوب برهن بمحاضرته تلك على عدم حساسيتة تجاه الدين النصراني:” الذي ينتظم عدداً لا يستهان به من السودانيين ” . وزعم أن هذا الموقف الذي طمس به المحجوب تراث الديانة النصرانية في السودان:” هو في الواقع عدم إحساس بمعتنقي هذا الدين وهو موقف ثابت إلى اليوم، رغم كل هذا الضجيج عن احترام التعددية الدينية ” .
وبالطبع فليس لنا، ولم يكن للمحجوب، وليس للشماليين، من متدينين، وغير متدينين، من موقف ديني سلبي، تجاه نصارى السودان، فهم مواطنون مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
ولكنا نقرر بعد ذلك، حقيقة لا ينكرها أكثر نصارى السودان، وهي أنهم، في غالبيتهم العظمى، جاؤوا نتاجا لحركة التنصير الحديثة، ولم يكونا امتداداً للنصرانية السودانية القديمة، التي يتحدث عنها منصور خالد، ولا كانوا من مذهبها الديني، في شيئ، بل اتبعوا مذهباً مخالفاً له، تمام المخالفة، وهذا ما يشهد به علماء مقارنة الأديان، الراسخون في علم الأديان.
ثم إن عدد نصارى السودان في ذلك الوقت الذي ألقى فيه المحجوب محاضرته، كان ضئيلاً جداً، بحيث لا يأبه به الباحث المنصف المجد، ولعلهم ما كانوا يزيدون على واحد بالمائة من تعداد السكان، فكيف يراد من المحجوب أن يجعل لهم كل هذا الشأن، الذي يمنحهم إياه، منصور خالد، الذي يحرضهم الآن، ويستعديهم، على مسلمي السودان؟!
القديسة المرتدة عن الإسلام:
ولم يكتف منصور خالد ببث هذه الدعاوى الفاسدة، حتى شاء أن يبتز أهل السودان الشماليين، بقصة فظيعة، تدين سادته الغربيين، ولا تدين أهل شمال السودان بشيئ، هذا لو كان منصور خالد يعي حقا ما يقول!
وهي قصة امرأة جنوبية مسلمة، باعها النخاسة الأوروبيون للقنصل الإيطالي بالخرطوم، وأخذها هذا إلى روما، حيث تم تنصيرها، وسميت جوزيفينا. وقبل سنوات قلائل، قام بابا الفاتيكان السابق بإعادة ذكراها ومنحها لقب (قديسة)!
وهذه قصة عادية من قصص فجائع التاريخ، فكمٌّ عديدٌ من المسلمين كان من ضمن جرى استرقاقهم وتنصيرهم على يد المستعمرين الأوروبيين. وقصة مثل هذه أحرى بها أن تثير حنق المسلمين المعاصرين، وتفجر كوامن غضبهم على المستعمرين الغربيين، الذين اجتالوا بعض أسلافهم عن الدين القويم. ولكن منصور خالد يريد من المسلمين أن يحتفوا بهذه القصة مع الكاثوليك!
وفي هذا يقول:” وابتهج الكاثوليك السود في كل أنحاء العالم بهذه المناسبة، عدا في السودان لم يكن الحدث جديراً بأن يتناوله الإعلام السوداني الذي تسيطر عليه الحكومة ولا صحافة الخرطوم المولعة بالتحري والتقصي، ولا استحقت تلك السيدة الفريدة التي صعدت من العبودية إلى القداسة الذكرى في البلد الذي يفترض أنها تنتمي اليه ” .
فيا لهذا من حشف ردئ، يبيعه لنا منصور خالد، في تطفيف بالغ، وسوء كيل!
فكيف يريدنا باسم تقديس ماضينا التاريخي، غير الإسلامي، أن نهلل لارتداد واحدة منا، ارتدت لا عن قناعة، ولا عن ظرف حر، وإنما عن ظروف الأسر والقهر والقسر؟!
وكيف يسوق إلينا منصور خالد هذه القصة الأليمة الموجعة، ثم لا يعزينا فيها، بل يطلب منا أن نفرح بها، ونبتهج، ونُسَر ؟!
لماذا منحت درجة القداسة الآن؟!
ثم ماذا عن هذه القداسة الدينية التي يمنحها شخص لشخص؟! هذا من أعمال الجاهلية البدائية التي لا نؤمن بها نحن المسلمون. إننا في الإسلام لا نؤمن بشيئ من مثل هذا، ولا نجعل من شخص حكما على إيمان شخص آخر!
فكيف يريدنا منصور خالد أن نبتدع في ديننا الكريم، ونخالف هديه القويم، ونضل عن سواء الصراط، ونُحجِّر واسعاً، وندخل في جحر الضبِّ الضيق، مع من بدلوا دينهم، وحرفوه، واتخذوا آيات الله هزواً؟!
وهنالك سؤال مشروع في هذا المقام، وهو: لماذا لم تمنح درجة القداسة الدينية هذه للمرتدة بخيتة من قديم الزمان؟!
ألأنها امرأة سوداء، وصلت إلى الغرب، في حين، كانت فيه أوروبا، والبابوية، وكنائسها، لا تعد السود بشرا كغيرهم من عبيد الله ؟!
ولماذا تذكَّر البابا هذه المرأة الجنوبية المرتدة في هذا الوقت بالذات؟!
أما في ذلك من إشارة واضحة قدمها البابا، لدول الغرب، لكي تضاعف من جهودها، في دعم حركة التمرد، وتسليحها، بغرض أن تتمكن من تنصير المسلمين السودانيين كما يرومون ؟!
بلى، وإن منصور خالد لأدرى بذلك كله، وبدسائسه، وخفاياه، مني ومن الناس أجمعين!
إن هذا التطرف الفكري، المغرض، المغالَى فيه، والذي لم يبال منصور خالد أن يَلِغَ فيه، ويلغو به، لم يصل إلى عشر معشاره الدكتور عبد المجيد عابدين، الذي كان المحجوب يزمع أن يدهسه في محاضرته تلك على مرأى من الناس.
وما أدري ماذا كان المحجوب فاعلاً بمنصور خالد، لو تجرأ، وجاء ليتقيأ شيئا من أقواله هذه، وتقيَّح هكذا، بحضرته يومذاك؟!
عار الدهر:
إن جلُّ ما قاله منصور خالد، أو أوحي به، في هذا المضمار، هو محض وهم، وبطلان، وخطل، وختل. حيث لم يحدث أن قام أحد بتضييق مجال الفكر أو النشر، أو قاوم أي محاولة لخدمة التراث الوثني والنصراني في السودان، وذلك لأنه لم يقم أحد من أنصار هذا التراث، ولا من دعاته، ولا ممن يتلفعون بشعارات الدفاع الزائف عنه، ولا من مناوئي الثقافة العربية الإسلامية، بأي محاولة جادة في سبيل إحيائه، أو تطويره، أو نشره وإقناع الناس به.
لذا فليكف منصور خالد عن اتهام الشماليين، وإرهابهم، وابتزازهم بمثل هذه الأقاويل، التي طفحت في محاضرته، التي ألقاها بلندن، عن محمد أحمد محجوب.
ليكف منصور خالد عن هذا بعد أن كفَّ مضطراً، وهو حسير، عن تحذير الشماليين المسلمين، وإنذارهم، وتوعدهم بأنهم على وشك أن يسقطوا سياسياً وحضارياً، وأنه يوشك أن يأتيهم، ليحطم ثقافتهم، وحضارتهم، وإرادتهم، ويسيطر عليهم، وعلى دنياهم، من لا ينتمي إلى عرقهم، ولا إلى ثقافتهم، ولا إلى دينهم!
وذلك هو فيض الكلمات، الشاهدات، الشائهات، الشانئات، التي أفضى بها منصور خالد، في لحظة من لحظات الرعونة، وطغيان الهوى. ودلَّ بها على ما في نفسه من ضعف الإحساس، وقلة التهذيب، وعدم الانتفاع بدروس التاريخ، وسوء التقدير لأحكام الثقافة الاجتماعية، وسلطانها، فضلاً عن نفاقه الناضح بالغي، حين تشبث، وأطال التشبث بأهداب الديمقراطية، ثم لم يصدر عنها، وعن قيمها، وأطرها، في أخطر أحكام العنت، والعسف، والجور، التي أصدرها على مصائر الشأن الثقافي السوداني.
ولولا سيطرة الضغن علي منصور خالد، واستحواذه عليه، واستبداده بعقله، وتعطيله لإرادته، فقد كان شخصاً مثقفاً مثله مرجواً أن يدرك أن ثقافات الشعوب، لا يمكن أن تنسخها سطوة الأحكام القسرية، ولا قسوة الأوضاع الاستبدادية، مهما استطال مكرها، وكيدها، وتضليلها، واستغفالها للشعوب.
وهذه العبرة القوية من عبر التاريخ، وأحوال الاجتماع البشري، أدركها مفكرنا وزعيمنا الوطني الشريف، الماجد، محمد أحمد محجوب، بثاقب وعيه، ونفذ إليه بحكمته العميقة الراسخة، فاستيقن أن سلطة الاستعمار البريطاني، التي لم تتمكن طوال أربعين عاماً، هي مدة مكثها في البلاد إلى حين ألقى محاضرته، من أن تطمس ثقافتها العربية الإسلامية، لن تتمكن من إنجاز تلك المهمة فيما بقي لها من عمر قصير، وتيقن أن طلائع المتعلمين السودانيين، من غير شاكلة منصور خالد، وهي شاكلة قليلة العدد، لن تنطلي عليها مكائد المستعمرين، ولذلك بشر بعودة أمتنا إلى منابع دينها وثقافتها عن قريب، وهذا ما تحقق بحمد الله.
الشمالي الآبق:
أما هذا الشمالي الآبق منصور خالد، فقد ظن أن بندقية التمرد الجنوبية، التي كان يشارك في توجيهها نحو صدور الشماليين المسلمين، قادرة على دحر الثقافة العربية، الإسلامية، السودانية، بين عشية وضحاها!
ولذلك تورط في إصدار نبوءته تلك (الإرهابية)، التي باح بها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وهي النبوءة التي ستظل الجزء الخالد من تراثه الفكري، وستبقى عاره أبد الدهر!