*حرب من هذه؟ وما هو هدفها؟ خراب سوبا الحلقة الخامسة الباقر العفيف*

 

رشا عوض كنداكة وفأس وتكسر ألف رأس
نواصل هذه السلسة بعد انقطاع تطاول لأسباب صحية. وافترع هذه الحلقة بالإنحناء احتراما وتبجيلا للكنداكة رشا عوض التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. نشرت الوعي وتصدت بصلابة لمكائد تحالف النقيضين، اليمين الكيزاني الرجعي واليسار الطفولي الجذري. إنها زرقاء يمامتنا التي رأت بوضوح الفتنة التي أدخلتنا فيها تلك الفئة المجرمة التي بعد أن أماتت ضمائرها موتا طقسيا جماعيا شرعت في إماتة شعبنا بشتى سبل الموت السريع والبطيء والمباشر وغير المباشر، فأجاعته وملأته بالخوف وشرَّدته في الآفاق حتى هام على وجهه، وصار حاله ما تحكيه الآية الكريمة “وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت”. كل ذلك من أجل استعادة سلطة نزعها منها الشعب.

وأثناء نشرها لهذا الوعي تقوم الكنداكة رشا بإعادة تعليم المتعلمين و”المثقفين” بزعمهم، و”عتاة الأكاديميين” الذين غامت عليهم الرؤية، وانبهمت أمامهم السبل، و”راح ليهم الدرب في الموية”. فصاروا يخبطون خبط عشواء ويحطبون بليل. وخابط العشواء سائر بلا دليل من فكر أو عقل، صوره لنا القرآن أبلغ تصوير حين قال “أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمَّن يمشي سويا على سراط مستقيم”، وحاطب الليل ربما جمع الثعابين والعناكب مع الحطب وحملها جميعا فأصبح كمن يحمل نعشه على كتفه. ويكفي للتدليل على أن “القلم ما بزيل بلم”، القول أن بروفيسور كبير، كالدكتور عشاري، اشترى كذبة موت حميدتي، وصار يكررها بإصرار إلى ظهر المرحوم وهو يحوم بين الدول، وليت هذا يصيب البروفيسور العتيق بهاء السكت، كما يعبر بشرى الفاضل، فيسكت ولو إلى حين. هذا هو حال مؤيدي مليشيا الكيزان الداعين لاستمرار الحرب المتغافلين عن آلام الشعب.

تتصدى الكنداكة رشا للعصابة الكيزانية عديمة الأخلاق بسلاح الاستقامة وقول الحق في وجه القوة دون خوف أو طمع. يدفعها قلب كبير تؤرقه أهوال الحرب ومنظر جثث لم تجد من يواريها الثرى فنهشتها الكلاب، وأهوال أطفال أبرياء يرتجفون مرعوبين من أصوات الصواريخ والراجمات والدانات، وآهات أمهات مكلومات فقدن الأزواج وفلذات الأكباد. وشقاء مرضى السكري والفشل الكلوي والسرطان الذين تعذبوا ومات الكثيرون منهم نتيجة انعدام الدواء. وعذابات الذين تقطعت بهم السبل فلا يجدون ما يسد رمقهم، أو من يضمد جراحهم، وها هو البرهان يعلن للعالم أجمع حكمه عليهم بالموت جوعا وإغلاق طرق إيصال الإغاثة أمامهم. وآهات النازحين مرة ومثنى وثلاث، الذين أدركتهم الحرب حيثما هربوا، ونكبة عدد غير معروف من النساء والفتيات المغتصبات والمختطفات اللائي يمتن في كل لحظة ألف ألف مرة.

عندما تنادي رشا بوقف الحرب فهي إنما تقاتل “في سبيل هؤلاء “المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا”. وقد جعل الله لهم من لدنه هذه الكنداكة العظيمة من ضمن من جعل من الأولياء والنصراء، فهبت لنصرتهم “متحزمة ومتلزِّمة” غير عابئة ببذاءات الكيزان والفلول ومن ساندهم من صغار العقول. يسندها منطق واضح وضوح شمس الظهيرة، وفصاحة في البيان لا تمضغ الكلمات أو تمضمضها. فشرعت تقرع بسياط الحق الأبلج أباطيل دعاة الحرب اللجلج، فزهقتها وجعلتها هباء منثورا.

التصدي لغثاء جيوش الظلام
نجحت رشا أيما نجاح في كشف أكاذيب الكيزان، وفضح خزيهم وتناقضاتهم وإجرامهم. وكذلك واجهت جيوشهم الجرارة من الذباب الإلكتروني، ومن الأجراء والمكريين من بائعي الأقلام “والزمان مسغبة”، والوجلين أصحاب القلوب الواجفة من مقدمي السبوت “والدنيا ما مضمونة”. بالإضافة لحلفائهم الجدد من أهل اليسار الطفولي، والجذريين، ومبغضي الحرية والتغيير الذين صار بغضهم لها مرضا ما منه فكاك. وفيما يلي سأتناول نموذجا من كل فئة من هذه الفئات.

الكتاب المكريين: محمد محمد خير نموذجا
سبق وأشرت من قبل لهذا الكاتب المكري الذي تَسَوَّل الوظيفة من الكيزان بسلسلة مقالات يتملَّقهم بها ويلعق أحذيتهم، إلى أن أفسحوا له مجالا ليغمس يده معهم في سرقة أموال الشعب. فبنى سلسلة جزاراته “أولاد أم درمان” من أموال الإنقاذ المنهوبة، وكان من ضمن خدماته القذرة للإنقاذ منادمة بعض قادة الحركات الدارفورية إبان مؤتمر الدوحة والتجسس عليهم، وشراء القابلين للبيع منهم. هذا الرجل المنحط، عديم الكرامة، المعترف بفساده، والمجاهر به، خطب في افتتاح منزله المبني من المال الحرام قائلا: “ربي ما تحرم بيت من الإنقاذ”، وسط قهقهات ضيوفه، في اعتراف صريح بأنه بناه بالمال المختطف من أفواه الجياع والمرضى والمحرومين من أبناء الشعب المقهور. فأي خزي وأي عار سيلازمه مدى الحياة، بالرغم عن أنه لم تبق في وجهه مزعة لحم لترتجف خجلا.
ولكن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟ سوف تشرق الشمس حتما من جديد، ويغمر الضياء هذا البلد الطيب، وسوف يذهب هذا الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس. وسوف يجيء يوم يسود فيه العدل، نراه قريبا ويرونه بعيدا. وسوف تُنصب موازين القيم وتُرفع رايات العدالة. في ذلك اليوم سوف يضع الشعب كل فرد، من رجل وامرأة، في مقامه المستحق، إما في سويداء قلبه، كما سيضع رشا ومن هم على شاكلتها، أو في مزبلة التاريخ، كما سيضع هذا الرجل الوضيع، ومن هم على شاكلته. وسوف يكتب الثوار على جدران ذلك البيت بالخط الكبير: “سُرِق من أموال الشعب المحروم”، مثلما كتبوا على جدران منزل الكوز الفاسد حسين خوجلي الذي اعترف هو الآخر في بث مباشر من قناته المسروقة هي الأخرى من المال العام، بأنه بنى بيته من توصيل سماسرة البترول مع “المسؤولين”، وهم بطبيعة الحال، كيزان فَسَدَة حتى النخاع، فقبض منهم مبلغا ضخما بنى به بيته. أي أنه تحصل على بيت في قلب الخرطوم لقاء صفقة مع سماسرة أنفق فيها نصف ساعة من وقته “السمين”. أنظروا بالله لهذا التفنن في السرقات، ولهذه “البجاحة” وقوة العين والجرأة على الشعب، والاستهتار به وبذكائه، ومحاولة تطبيعه على الفساد. وحقا “إذا لم تستح فافعل ما شئت”.

المثقفون النافعون
بيد أن رشا لا تخوض حربها العادلة ضد الكيزان والفلول وبائعي الذمم وحسب، فهؤلاء يمثلون الباطل العريان كما رأينا في مثال الكاتب المكري. ولكنها أيضا تخوض حربا أكثر تعقيدا وصعوبة ضد مناصري مليشيا الكيزان المنتحلة لاسم الجيش من “المثقفين” النافعين ممن يمثلون الباطل الرافل في لبوس الحق. إن معركتنا الحقيقية إنما هي مع هؤلاء الذين زلَّ الله أقدامهم فغادروا مكانهم الطبيعي في صف الشعب المقهور إلى الضفة الأخرى حيث يقف قاهرو الشعب من الكيزان والفلول. يحار المرء كيف ارتضى هؤلاء لأنفسهم الجلوس في خندق واحد مع المحرضين على الحرب والمروجين لخطاب الكراهية من الكتاب المكريين و”القونات” و”اللايفاتية” المعاتيه، أمثال الإنصرافي، الذي يدعو للقتل الجماعي للشعب وعدم التفريق بينه وبين الدعم السريع في المناطق التي يحتلها. وكذلك يدعو للتدمير الكلي للبنيات التحتية ولقتل الناس بناء على الهوية العرقية والسياسية. كيف سوَّغ هؤلاء لأنفسهم الجلوس في خندق واحد مع أمثال عائشة الماجدي التي تحرض الجيش وكتائب الإسلاميين على إبادة قبائل الرزيقات (هكذا من طرف) وذلك بقتل رجالها واغتصاب نسائها. “أي والله. هكذا قالتها بصوتها. هذه امرأة تدعو لاغتصاب نساء مثلها، فهل يا ترى تتوقع، إن حدث هذا لا قدر الله، ألا يرد الآخرون بالمثل في المناطق التي يسيطرون عليها وهي أكثر من نصف ولايات السودان؟ ألا تُعَرِّض هذه المرأة ملايين النساء السودانيات لخطر الاغتصاب؟ الآن يموت الشعب البريء بالقصف العشوائي المتبادل بين الطرفين المسلحين وتريد هذه المرأة أن تعرضه للموت آلاف المرات بالاغتصاب المتبادل بين المجتمعات المتناحرة. إنها تدعو الطرفين صراحة على خوض الحرب على أجساد النساء. إن أقل ما يجب اتخاذه ضد هذه المرأة المريضة هو تقديمها لأقرب مخفر شرطة أو مستشفى أمراض نفسية وحبسها إلى أن تسترد عقلها وإنسانيتها. كما يجب التبليغ عنها لإدارة المواقع الاجتماعية لحظرها وأمثالها من بث هذا الجنون على الناس. إن السؤال الذي يحير العقل هو كيف أغشى الله أبصار هؤلاء “المثقفين” النافعين وأزكم أنوفهم فلا يرون جيرتهم البشعة ولا يشمون رائحتهم النتنة.

أسئلة تلاحق المثقفين النافعين
سوف لن نتوقف عن طرح هذه الأسئلة على هؤلاء المثقفين النافعين إلى أن نحصل منهم على إجابة تكشف عن دوافعهم الحقيقية التي يخفونها بالالتواء والحذلقة والتذاكي. كيف غابت عنهم رؤية الحبل الناظم لكل الجرائم التي ارتكبها الكيزان منذ الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩، حينما قررت اللجنة الأمنية للبشير الإنحناء لعاصفة الثورة، والتضحية برئيسهم، وبعض قادة نظامهم، مع إضمار الانقلاب على الثورة لاحقا. كيف لا يرون الحبل الناظم لهذه الحلقات التالية:
• الهجوم على ميدان الاعتصام في ليلة المتاريس في الثامن من رمضان عام ٢٠١٩، حيث قتل ١١ من تروس الاعتصام،
• مجزرة القيادة في التاسع والعشرين من الشهر الكريم نفسه، وبيان الانقلاب الذي أذاعه البرهان في الثالث من يونيو ٢٠١٩، والذي ألغى فيه كل الاتفاقات مع الحرية والتغيير،
• محاولة انقلاب الفريق هاشم عبد المطلب في يوليو ٢٠١٩، والذي اعترف أمام محققيه بأنه يتلقى تعليماته من علي كرتي والجاز،
• انقلاب بكراوي في سبتمبر ٢٠٢١، والذي أدان فيه البرهان الحرية والتغيير بدل إدانة الانقلاب. وألمح فيه من طرف خفي أن بكراوي وصحبه لهم مطالب مشروعة، ولكن كان يجب أن يمضوا في لتحقيقها متحدين معه، وكأن كل مأخذه على الانقلابيين هو أنهم تخطوه ولم يشاوروه، أو ينتظروه ليقوده هو في الوقت المناسب بعد أن يمهد له باعتصام الموز وإغلاق الميناء. وقد أسميته انقلابا وليس محاولة انقلاب لأنه استمر حتى تحقق بقيادة البرهان بعد شهر واحد فقط.
• التمهيد الفعلي للانقلاب بإغلاق الميناء بواسطة الكوز الفاسد ترك، واعتصام الموز الذي من ضمن قادته الكوز اللص جبريل، والمتكوزن الأخرق مناوي، وحرامي الذهب أردول، والعاطل العي التوم هجو الذي كان يهتف “بعوارة” “الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع”.
• الانقلاب الذي قاده البرهان بنفسه بعد شهر واحد فقط من انقلاب بكراوي في الخامس والعشرين من أكتوبر من نفس العام، والذي هو عبارة عن مواصلة وإكمال لذات انقلاب بكراوي.
• ثم تتويج كل ذلك بالحرب التي أشعلها الكيزان في الخامس عشرة من أبريل ٢٠٢٣، بعد أن رفض حميدتي التراجع من الاتفاق الإطاري.

أليس واضحا أن هذه حلقات من سلسلة متصلة هدفها هو هزيمة الثورة وعودة الكيزان للسلطة؟ أليس واضحا أن العدو الحقيقي للكيزان والفلول ليس هو الدعم السريع، بل هو الشعب السوداني الذي أنجز الثورة وأطاح بهم؟ أليس واضحا أن سبب الحرب ضد حميدتي هو أنه أصبح عقبة في طريق عودتهم للسلطة لابد من إزاحتها ليتفرغوا للعدو الأساسي وهو الشعب والثورة؟ ألم يصرح الكيزان أنفسهم بهذا في إفطاراتهم الرمضانية التي هددوا فيها بالحرب بصريح العبارة؟ ألم يشاهد هؤلاء كل ذلك العدد الهائل من الفيديوهات التي أعلن فيها الكيزان والفلول خططهم بالتفصيل؟ فإذا كان كل ذلك على هذه الدرجة من الوضوح، فما الذي طمس على أفئدة هؤلاء “المثقفين” النافعين فكأنهم لا يفقهون شيئا.

تحالف النقيضين: الكيزان واليسار الطفولي
لا يخفى على الناس الهجوم الممنهج لنظام الكيزان والقوى المتحالفة معهم على أحزاب الحرية والتغيير، وتقدم، وتشويههما بنسج شتى أنواع الأكاذيب حولها من شاكلة أنها تسببت في الحرب وتحالفت مع الدعم السريع. يدعم هذه الحملة الكيزانية استهداف مثقفي اليسار الطفولي والجذريين للحرية والتغيير ومخاصمتها مخاصمة الضرة، وتحميلها مسؤولية فشل الفترة الانتقالية. وهم بذلك يدعمون نظام الكيزان “باستراتيجيات الــــــ Blame Shifting ” كما يعبر الدكتور بكري الجاك. أي إحالة اللوم في انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١ على أحزاب الحرية والتغيير، للتقليل من مسؤولية العسكر، أو توزيع دم الانقلاب بين القبائل، أي بين العسكر وأحزاب الحرية والتغيير. يقول الدكتور بكري:

“لعلّ الهجوم المنظم على القوي السياسية الديمقراطية ومحاولة تحميلها مسؤولية حرب الخامس عشر من أبريل هي أبلغ تعبير عن خطل وخبث وبؤس هذا المنهج اذ لا يحتاج المرء بعده لتفسير، والذي للأسف الشديد وجد له مكان ما فى المخيال الاجتماعي والسياسي السوداني كنتيجة للتشوهات السياسية المتعاظمة، وكعامل يؤدي الى مفاقمة تأثيرات هذه الظاهرة المستقبلية على المشاركة السياسية”.

الدكتور معتصم الأقرع
وهذا بالضبط ما يقوم به الدكتور معتصم الأقرع الذي جعل جل همه ترصد وتتبع stalking قادة الحرية والتغيير، وإبراز تناقضاهم وتوجيه الأسئلة التي يعتبرها “محرجة” لهم بصورة دؤوبة. إن مثابرة الدكتور الأقرع تعطيك الإحساس وكأن هناك ثأر شخصي أو personal vendetta. فكتاباته توحي بأنه يعتبر هذه القوى المشكلة الكبرى والعدو الأول للشعب السوداني، وليس الكيزان وجيشهم، وميلشياتهم، وحلفائهم، وكتائبهم المتعددة والمتنامية كالفطر البري السام. بل أكثر من ذلك أصبح يدافع عن الكيزان ويتهم من يحملهم مسؤولية الحرب وجرائمها بأنهم مصابون “باللوثة الكيزانية الاستهبالية”، دون أن يتفطن لمعضلته الذاتية، وهي إصابته هو الآخر “بلوثة قحت” التي تقطر من جميع حروفه. فقد ظل يلوك بتكرار مرير القول بأن الكيزان إنما تمكنوا من الانقلاب على الثورة نتيجة ضعف قحت وحكومتها التي عجزت عن تصفية وجودهم دون أن يدلنا على الكيفية التي تتم بها تلكم التصفية. فهو يرمي اللوم على الضحية العزلاء السلمية المسالمة ويجد مبررا للجلاد المدجج بالسلاح والممتلئ بالحقد على الشعب والثورة، والعازم على استرداد سلطته التي فقدها مهما كان الثمن. والذي لم تتوقف بندقيته عن اصطياد الشباب منذ أن بدأت الثورة وحتى هذه اللحظة. يقول الأقرع متهكما على المصابين بهوس الكيزان:
“لم يعد في الكون سوي كوز متعال على كل شيء قدير. فهو قادر علي إفشال الانتقالية (بدون مساعدة خصومه بسوء إدارتهم للشأن العام) وهو كوز قادر وحده لا شريك له على تنفيذ انقلاب ٢٠٢١ وقادر على إفشال الإطاري وعلى إشعال الحرب وعلى ادامتها وعلى منع التفاوض لوقفها. ولا تتحمل أي جهة داخلية، أو خارجية، أو عميل، أو جاهل في مكان القرار نصيبا ولو يسيرا من مسؤولية الفشل المريع. ولا يعن لمن أصابه هوس الأخوان الاستهبالي أن يسال نفسه لماذا سمح من تولوا الأمر بعد سقوط البشير بعودة كيزان هزم نظامهم الشباب بالتضحيات وكيف سمحوا بعودتهم من ثقوب انعدام كفاءتهم المحرج في الكرة الأولي وفي الكرة الثانية مهدوا لعودتهم – مسلحين هذه المرة – بتموقعهم المساوم والخاطئ تماما في الداخل والخارج”. (انتهى)
يرسل الدكتور الأقرع تلكم الأسئلة المتلاحقة دون أن يعيننا بإجابة على أي منها. فهو مثلا لا يعين لنا الجهة الداخلية التي ساهمت في الانقلاب غير الجيش والدعم السريع وحلفاء اعتصام القصر؟ وهو يوحي بأن للحرية والتغيير مساهمة ما في الانقلاب دون أن يحددها. وعلى الأقل لا يخبرنا ماذا كان بوسعها أن تفعل لمنعه؟ كذلك لا يحدد لنا دور الحرية والتغيير في إفشال الإطاري وفي إشعال الحرب واستدامتها وإفشال التفاوض حولها؟ وبطبيعة الحال لا يخبرنا من هو العميل والجاهل في مكان القرار الذي ساهم في كل أولئك؟ وتساؤلاته كلها من نوع الإرسالات الهلامية الغامضة التي تبث الشكوك وتثير الخيال دون أن تقدم معلومة محددة أو تسمي الأشياء بأسمائها. كذلك يتحدث عن فشل الحكومة الانتقالية في تصفية الوجود الكيزاني دون أن يهدينا السبيل للكيفية التي تتمكن بها حكومة حمدوك من تنفيذ تلكم الخطة العملاقة. أو كيف كان سينفذها هو لو كان يجلس في مكان حمدوك. ولكي ما نعينه على ذلك دعونا نتصور أن حمدوك أصدر قرارا بإحالة جميع الضباط الإسلاميين في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى للمعاش بكامل مخصصاتهم وبيوتهم وعرباتهم وسائقيهم مع ترقيتهم للدرجة التالية لرتبهم في ذلك الحين. فماذا كان سيحدث؟ هل كانوا سيقبلون القرار بطيبة خاطر وينصرفون إلى بيوتهم بسلام؟ أم كانوا سيعتبرون ذلك سببا قويا للانقلاب على الحكومة المدنية؟ خصوصا وهم أصلا متربصون بها لدرجة أنه في كل شهر نسمع بمحاولة انقلابية تستهدف الثورة. وأمامنا تجربة لجنة تفكيك التمكين رغم تدني سقف طموحاتها، وموقفهم منها معروف للجميع.
هل نحتاج للقول إن ثورة سبتمبر ليست ثورة مسلحة كالثورة البلشفية وهي بطبيعتها السلمية لم ولن تستطيع تحطيم آلة الكيزان العسكرية لتفرض تغييرا جذريا بالقوة؟ وأن البداهة تقرر أن أي تحرك شعبي يسعى لأحداث تغيير راديكالي كان سيعتبر سببا قويا للانقلاب في أي وقت يحدث؟ لقد وجهت الكنداكة رشا والكثيرون غيرها هذا السؤال للجذريين مرارا وتكرارا دون أن يحظى متسائل بإجابة سوى القول الغامض أن الشباب الذين أطاحوا بالبشير قادرين على الإطاحة بغيره. ولكن البشير أطاحت به اللجنة الأمنية التي وضعته في مكان آمن وجلست مكانه، فمنذا الذي يضع اللجنة الأمنية في مكان آمن مع رئيسها ويسلم السلطة للمدنيين ويذهب إلى أهله يتمطى؟ هل هو هذا الجيش الذي نراه الان والدعم السريع الذي كان يوجه معه السلاح لصدر الشعب؟ أم أنه جيش آخر أسطوري سيهبط علينا من السماء ويحطم جيشي البرهان وحمدان معا ويقودهما مكبلين لكوبر؟ فهل للدكتور الأقرع إجابة على هذا السؤال أم ترى يندرج نقده للحرية والتغيير تحت عنوان “الريس يجيب الهواء من قرونه”؟ أم إنه البغض الأيديولوجي الذي يجرف صاحبه للضفة الأخرى التي يتوهط فيها العدو الحقيقي؟ أعجب ممن يتعوذ بالشعب من “الكمبرادور الغشيم” ويراه أكثر شرا من “الكوز الرجيم”.

الالتواء والحذلقة الأكاديمية: الدكتور عبد الله علي إبراهيم نموذجا
وضمن الذين ضلوا سبل الرشاد بشأن هذه الفتنة الدكتور عبد الله علي إبراهيم. والدكتور ليس “رجلا سَلَمَا لرجل” وإنما بداخله “شركاء متشاكسون”، وأعني بذلك أنه ليس متسقا في سيرته ومواقفه وإنما تصطرع داخله شخصيات متناقضة. وكما يجري التعبير العامي “الزول ده ما ياهو، أو ما براه”. فهناك الشخصية التاريخية الماركسية الشيوعية التي يصر على التمسك بها حتى هذه اللحظة وتبرق في كتاباته الفينة بعد الأخرى. وهناك الشخصية المتوددة للكيزان والباحثة عن نَسَبٍ مشترك معهم. هذه الشخصية خالطته منذ أن اشترك مع أهل الإنقاذ في حوارهم الوطني ودخل مجلسهم الديكوري أول مجيئها. ويبدو أن الإنقاذ أصابت الدكتور بالصدمة والرعب الممزوج بالاحترام العميق الذي يشبه التقديس Shock and Awe فهم، وإن كانوا الأخير زمانهم، أتوا بما لم تستطعه الأوائل، من البشاعة، بحسب تعبيره، مما اضطره “لمصانعتهم”. وهنا تأتي القدرات الأكاديمية في متناول اليد لتحويل الرعب والهزيمة، والمصانعة، من حالة مؤقتة للضعف الإنساني، لموقف فلسفي متكامل يكتسي بالرصانة الأكاديمية، ويدعي الموضوعية العلمية. هذا الموقف الفلسفي يسمح له بتدبيج المقالات احتفاء بذكرى ميلاد الترابي، ويسوغِّ له التتلمذ على أيديهم في علوم الشريعة في قلعتهم جامعة أفريقيا العالمية، ويبرر له العمل في ذات الجامعة الكيزانية أستاذا، متناسيا ما خطه بقلمه عنها في كتابه “الثقافة والديمقراطية في السودان” عندما كانت تُسَمَّى المركز الإفريقي الإسلامي. ومواصلة لذلك التودد للكيزان الناتج عن الرعب المخلوط بالتقديس يندرج توظيفه لملكاته وإمكاناته الأكاديمية ليبرر تأييده لجيشهم ولاستمرارية الحرب. وتأييده لمواقفهم الانعزالية الطفولية في مقاطعة المنابر الإقليمية والدولية العاملة على وقف الحرب كالأمم المتحدة ومنبر الإيقاد.
أما عندما يتناول سيرة الحرية والتغيير فتبرز شخصية أخرى للدكتور تناقض تماما تلك الشخصية المهادنة للكيزان. فهو هنا فارس الحوبة، تراه مشرعا رمحه مكر مفر مقبل مدبر معا، وكأنه عنترة بن شداد على فرسه “الأبجر”. وكما تقول العامة “حقيرتي في بقيرتي”. فالدكتور يصب جام سخطه على “آلهة الحرية والتغيير وتقدم” التي حكمت على الشعب بحمل صخرة الكيزان مثلما حكمت آلهة اليونان على سيزيف بحمل صخرته الأسطورية لأعلى الجبل فما أن يصل القمة حتى تنزلق منه إلى السفح فيعاود الكَرَّة، وهكذا دواليك إلى الأبد. بل هو لا يتوانى عن اتهام الحرية والتغيير بالفشل حتى قبل أن تولد بعقود.
فهو يقول:
“أسأل نفسي ما هو ميس (في لعب الأطفال) أهل قحت وتقدم الذي يبلغون البلد به ويكون يوم النصر المؤكد على الكيزان فيرتاح خاطرهم وخاطر البلد. تربصوا {أي أهل قحت} بهم {أي بالكيزان} بعد انقلاب 1969 وسموهم “إخوان حتحوت” لينتهي الانقلاب التقدمي المزعوم في 1983 إلى ثيوقراطية دينية من أبو كديس أو أبو كيزان. وتربصوا بهم قبل ثورة ابريل 1985 وما بعدها ودمغوهم “بالسدنة” وتكأكأوا على شيخهم الترابي بأقصى الصحافة وغلبوه. ثم عاد الكيزان بانقلاب 1989 دولة ثيوقراطية لآخر حد. ثم اسقطوهم ك “فلول” في 2019، بل داسوهم دوس. ثم عادوا. ومدعوون نحن الشعب ما نزال للتعبئة لاستئصال الكيزان. أليس ثمة شيء غاية في الخراقة هنا؟” ثم يمضي إلى أن يقول “يبدو أن لا قحت ولا تقدم تريد لنا أن نرى عيبها من وراء قرارهم تحميلنا صخرة الكيزان التي أوثقوها على أكتافنا. وعيبها أنها لا تحسن القضاء عليهم. فيخرج عليهم الكيزان من ثقب أداء واجباتهم ويسألون: من أين جاء هؤلاء؟ وعلينا حمل الصخرة في الواد لأنهم حين فشلوا، وأدمنوا الفشل، خرجوا منه كالشعرة من العجين “اشكع على الكيزان”. انتهي.

ولعل الملاحظة الأولى في نصه هذا هي تجرؤه وتحامله و”حقارتو” بقوى الحرية والتغيير ودمغهم بالفشل وتحميلهم مسؤولية كل نجاح حققه الكيزان منذ عام ١٩٦٩، وكأنه ليس للكيزان فعل مستقل، وأن كل ما يقومون به هو عبارة عن ردود أفعال و “كَيَّة كدا” في قحت وتقدم، حتى وهما في رحم الغيب، قبل أن يظهرا في الوجود. وإلا فما هو دور قحت في انقلاب ١٩٦٩؟ أو ما أعقبه من ترصد للكيزان أو وصفهم “بإخوان حتحوت”؟ وما هو دورهم في إعلان نميري لقوانين سبتمبر ١٩٨٣، أو ما وصفه الدكتور بدولته الثيوقراطية من “أبو كديس أو أبو كيزان”؟ وكذلك ما هو دورهم في التحالف ضد الترابي؟ وما هو العيب في إسقاطه في انتخابات ديمقراطية حرة على كل حال؟ وما علاقة ذلك بانقلاب الإنقاذ في ١٩٨٩؟ هل يريد الدكتور أن يقول إن كل ما فعله الكيزان بكم إنما كان ردة فعل لخراقتكم وتحرشكم بهم، وأن خطيئتكم الكبرى تتمثل في مصارعتكم لهم ووقوفكم في طريقهم، وأن (عدم الخراقة) كانت تقتضي أن تفرشوا الطريق أمامهم بالورود والرياحين، أو أن تخلوا لهم الطريق وتقفوا على الرصيف مطأطئ الرؤوس أثناء زحفهم المقدس نحو السلطة؟ وإنكم إن لم ترتكبوا هذه الخطيئة الكبرى لكانوا ترفقوا بكم ووهبوكم “مَنّاً وسلوى من شعير” بدلا عن دق المسامير في الرؤوس وحشر السيخ في الأدبار؟
والملاحظة الثانية هو ضجر الدكتور من الاستمرار في مقاومة قحت للكيزان ومحاولات عزلهم سياسيا، وتمسكهم بهذا الهدف رغم أنهم لا يحسنون القضاء عليهم، بدليل أن الكيزان يعودون في كل مرة بصورة أكبر وأقوى. أما كيف يعودون بصورة أقوى وأكبر؟ فالإجابة عنده حاضرة. “من ثقب أداء واجباتهم”. أي أن الكيزان يعودون دوما بسبب فشل قحت، وليس نتيجة تخطيط مستقل وعمل دؤوب في ممارسة السياسة القذرة على طريقة المافيا، بالتآمر، والإجرام، والاختراق، والكذب، والسرقة، وشراء الذمم، والعنف، والانقلاب العسكري. وهنا مربط الفرس كما تقول العرب. فقد حشد الدكتور في هذه الجملة وحدها كل معايب سلوكه. فبالإضافة للتغافل عن جرم المجرم وإلقائه اللوم على الضحية، تتصف عباراته بالالتواء في مقام يستدعي الاستقامة، والخنخنة في مقام يتطلب الإبانة، والإيحاء في مقام الإفصاح وصراحة القصد. فماذا يقترح الدكتور لقحت أن تفعل لتضع عن كاهله صخرة الكيزان طالما أنها لا تحسن القضاء عليهم؟ لماذا لا يصل بمنطقه لنهاياته الطبيعية؟ ولماذا يكتفي بالإشارة والإيماء وترك الباب مواربا؟ إن الدكتور الجليل يدعونا لأن نرخي ركبنا مثله، وأن نستسلم للكيزان ونقبلهم رغم كل ما فعلوه بنا. فهو يبدو أنه يستهدي بالمقولة الانهزامية القديمة “إذا لم تستطع هزيمتهم فانضم إليهم”، فاستسلم لهم من أول وهلة. ثم “فكَّر وقدَّر. فقتل كيف قدَّر. ثم نظر. ثم عبس وبسر”، حتى اكتشف الحل. فخرج كأرخميدس عاريا، ليس من “هدومه” بل من فضائله، وهو يردد “وجدتها.. وجدتها”. لقد عثر على “الشفرة الثقافية” العروبية الإسلامية التي تجمعه بهم. “ثم أدبر” من كل تاريخه في الدفاع عن التعددية الثقافية و”ارتد” عن دين الحق والخير والجمال، “واستكبر” علينا بالإيمان، شأن الكيزان، وأصبح داعية للعروبة، مدافعا عن الشريعة الإسلامية، ومعتذرا عن الكيزان باعتبار مشروعهم يمثل الجماعة العربية الإسلامية القاطنة شمال ووسط السودان. فهو يدعونا أن ننظر لهذه “المجموعة الشمالية” باعتبارها تمثل “عنصرا” أو عرقا أو قبيلة Race. وهي مستهدفة كعرق، مما يقتضي تضامنها بجميع عناصرها سواء كانوا يساريين يمينيين وسطيين أو حتى جمهوريين، وهذه عنده كلها تنظيمات “شمالية”. أي أنه يدعونا للارتداد للمكون البدائي ما قبل الحداثة، بل ما قبل الطائفية. وبناء على هذا الاكتشاف المذهل دعانا صراحة للدخول في خيمة الانقاذ. وأردف قائلا إن مصيبة هذه الجماعة الشمالية العروبية الإسلامية تتمثل في كونها ورثت وطنا أكبر من حجمها. ولأننا كلنا نعلم أن فشل النخبة الحاكمة يتمثل أساسا في عدم قدرتها على إدارة التنوع لأنها لا تستطيع أن تفسح مجالا لغيرها معها ولا تقبل من الآخرين سوى الخضوع التام لها، فيصبح تقصيرها للوطن على قدر طولها ضربة لازب عليها. وبناء على ذلك يمكن القول أن دكتورنا الهمام هو أول من نَظَّر لمثلث حمدي ودولة عمسيب.
هل استمعتم لآخر حججه في الوقوف بجانب الجيش؟ فقد قال في مقابلة تلفزيونية أنه يفاضل بين “المر والأمر منه”، وأردف القول إنه يعني “بالمر” الجيش، و”بالأمر منه” الدعم السريع. فانظر التضليل والالتواء أذ كيف يكون صانع الشر أقل مرارة من الشر الذي صنعه بيديه؟ إن الأمر البديهي هو إن كان الدعم السريع هو الشر المنطلق من عقاله والشيطان الرجيم يكون من البداهة أن الكيزان وجيشهم الذين صنعوا الدعم السريع هم الشر المطلق، وأكابر الشياطين الأكثر استحقاقا للرجم. كيف يكون فرانكشتاين أقل شرا من وحشه الذي صنعه بيديه يا دكتورنا الجليل، خاصة إذا كان ما يزال مستمرا في (الشغلانية) ويصنع في المزيد من الوحوش كالبراء والخرساء والرقطاء. إن استقامة الفكر كانت تحتم عليك القول إن الدعم السريع هو المر بينما الجيش هو الأمر منه. أما السؤال الآخر فهو لماذا علينا المفاضلة بين المر والأمر منه؟ ولماذا لا نرفضهما معا وندعو لوقف الحرب والموت والدمار؟

كلمة أخيرة
تتصدي الكنداكة رشا بمثابرة وجلد لهذا الجيش العرمرم من المضللين أصحاب الحلاقيم الكبيرة والعقول الصغيرة. وهو ليس جيشا عاديا، بل يمتد من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وقسم كبير منه، كالكيزان وكتابهم المكريين وذبابهم الالكتروني وقوناتهم واللايفاتية تبعهم عبارة عن جيش قذر ملوث وملتاث، يمثل قاع مجتمعنا ومُجَمَّع قمامته ومجاري صرفه الصحي حيث يطن الذباب والهوام وينشط المجذومين فكريا والمعطوبين نفسيا. وعار علينا أن تركناها في الميدان وحدها. وقَصَّرنا عن دعمها والاصطفاف خلفها. أما هي فقد استحقت القيادة عن كفاءة وجدارة، وامتلكت كل صفاتها من وضوح الرؤية وقوة البيان ورجاحة الرأي وشجاعة الشجعان.
نواصل

مقالات ذات صلة