*قصيدة أرتى كروجى قد جومن للشاعر النوبى الشفيف : عبد اللطيف سيد أحمد بقلم : محمد شريف ابو داؤود*

رائعة أخرى من روائع شاعرنا الشفيف عبد اللطيف سيد أحمد الذي دوماً ما يتحفنا بالجميل متنقلاً بنا برشاقته المعهودة بين أغراض الشعر المختلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فها هو شاعرنا النوبي الكبير يجاري أبو العتاهية في شعر المواعظ والحكم ويبزه أيضاً بقصيدة في غاية الروعة والجمال مترعة بالعديد من العبر والمواعظ تأثر فيها بشكل لافت بالكتاب والسنة .
ابن جزيرة الأشراف:
هذه المسحة الدينية ليست بالمستغربة على ابن جزيرة الأشراف (لبب)، تلك الجزيرة التي اشتهرت بالحفظة والعلماء على مر العصور, ويكفي أن الإمام محمد احمد المهدي أحد هؤلاء العلماء كما قال شاعرنا الكبير عبد المطلب محمد أحمد ابن تلك الجزيرة :
( مهدى نارتى أنصارى نارتى فقيرى نارتى)
وصف الشاعر العربى ابن الوسطى اهوال يوم القيامه بابيات رائعات متاسيا بالكتاب والسنه حين يقول :
مثل لنفسك ايها المغرور
يوم القيامه والسماء تمور
اذ كورت النهار وادنيت حتى على راس العباد تسير
واذا النجوم تساقطت وتناثرت
وتبدلت بعد الضياء مدور
واذا البحار تفجرت من خوفها
ورايتها من الجحيم تفور
واذا العشار تعطلت وتخربت
خلت الديار فما بها معمور
واذا الوحوش لدى القيامه تحشرت
وتقول للافلاك اين تسير
ويقول ايضا :
مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشا قلق الاحشاء عريانا
النار تلهب من غيظ ومن حنق
على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك ياعبد على مهل فهل
تري فيه حرفا غير ما كان
فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار
من عرف الاشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتى
وامضوا بعبد عصا للنار عطشانا
ترى ماذا قال شاعرنا النوبى الكبير فى اهوال يوم القيامه
شرح القصيدة:
إن نا بالكو جابر نوقّي أرتي كورجي قد جومّون
دنياد أرتي نر والله كولتي ن أوركي من كوبمون
إن إيق شارتي تيليويقرل أرهاد ن إيق أوروممون
أرهاد ن إيق دسن دولّين ألد كنجن بلد كومون
آركرسندوتون آنجن هببكنن تني ديكومونن
بنى شاعرنا قصيدته على الحكمة النوبية التي تقول: (أرتى كروجى قد جومن-
وأيضاً هناك حكمة نوبية أخرى بنفس المعنى تقول : ( أرتى كلوقد نللى مون-
فالنوبيون ليس في شرعتهم ولا في ثقافتهم القتل والتنكيل وسفك الدماء والتدمير, لذا فإنهم يعتبرون الضرب بالسياط أو الرجم بالحجارة من أقسى أنواع العقوبات. وتطلق هذه الحكمة عندما يعتدي أحدهم على الآخر أو تقع عليه مظلمة, والمقصود بها أن الله تعالى لا يعجل بالعقاب مثلنا نحن بنو البشر ولكنه (يمهل ولا يهمل) وعقوبته من نوع آخر تماماً وهو أكثر إيلاماً (أرهاد نيق-) إشارة إلى جهنم, وكيف أنها مستعرة منذ أن خلقها الله سبحانه و تعالى و أعدها للكافرين, وليت شاعرنا استعمل المفردة النوبية لجهنم إذن لكانت أوقع, حيث إن كلمة عربية الأصل, وذلك لاعتـقادهم بأن الدنيا دار شقاء والآخرة دار راحة .
أوقلّن تدو تورتي كولون شوبيكي أروفيكومن
ورّير تون أدم قومين وقراد تندي أجنقي نبِن
وو تييبلّو بـ آوري ويل إن ويري أيندي تود ويرمون
سريقي آورندوقون ماقون مليقي أمّا أير آآ مامون
أين أوقو كلتي سنتن تيبن أيكّون ميديقي آق آومون
مورّيقون أيكّي إرنجد بون من أير مشا ويكي قاركومونن
تروم كوليقر كوجيق كوروقي أولقون كجّدر دابون

حكم و مواعظ:
يحذرنا الشاعر من ذلك اليوم العصيب, ومن تلك النار التي وقودها الناس والحجارة (تن تورتى كلون- ), ويحثنا على مكارم الأخلاق وفعل الخيرات بأسلوب بديع وبلغة سلسة, مستعينا بذخيرة دينية عميقة, مما أكسبها هذا الزخم الهائل , مبيناً لنا أن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. وأن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة من هوانها عليه جل شأنه, ويذكرنا بعظمة نار جهنم التي لا قرار لها ولا تحدها حدود, فهي عظيمة الطول والعرض (ألد كنجن بلد كومن-) فكلمة (ألد -) بفتح الألف واللام تعني الطول و(بلد-) بفتح الباء واللام تعني العرض, وهي مفردات نوبية في غاية الروعة والجمال, وفق شاعرنا كثيراً في استعمالها إذ إنها من المفردات المهملة, وأيضاً استخدم كلمة (أومى) بمعنى إحساسك الشديد بحرارة النار وهي تلفحك، وكان موفقاً في ذلك أيضاً. ويسترسل شاعرنا ويقرر أهمية تقديم مشيئة الله إذا ما أردنا فعل شيء فكل شيء لا شك بأمره.
و كأني به يريد أن يقول إن دخول الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى وليس بأعمالنا, فمهما فعلنا من الطاعات فلن نوفي الله ولو جزءاً يسيراً من نعمة واحدة من نعمائه التي لا تحصى ولا تعد وعبر عنها ببيت رائع حيث يقول:
(موررى قون الكى ارنجد بون من ** أر مشى ويكى قاركومنن)
وهذا أيضاً مثل نوبي استخدمه الشاعر ببراعته المعهودة والذي يقول: (فلان مورر مشى قاركومن-
أي أنه لا يزال عند بداية الطريق (وموررى) يعني كوم الحصاد بعد نظافته وتخليصه من الشوائب و(مشى) عبارة عن طبق صغير جداً.
والمعنى أن الخيرات كثيرة وجزيلة ومبذولة ولكننا نكتفي بالنذر اليسير ، عليه فإننا بفضل الله ورحمته فقط سنتجنب تلك النار المستعرة منذ أن خلقت .
أرتي ن أوقولّو جتاد أيندي بنجّكين أيكونون تيبمون
هليل إن كاريقي آآ تورتور دوقوقيريلي
دوقنجي دوركرد دوقدوق بوجوقيريلي
جقدين أرومقي تٍن إينجيرتون آر كليلي
تٍندي منلقي ماق كاو جمّقير قونجلي
مسّودكر أودّي تيدّو نيربولي
دِيار تان شوبكي موق بـ دي دبلي
دِيار جوبونقي مِسّي نلين دِيار جوبنقي أر بقلي
قُونجي تاري قال إشكرتي تير جوون كُلّو تيق دبمون
تِن دار جمّوسون بوكون سِنرن تينّي نيومونون
أدم دنيادر إشكرتين نوقيد تينديقون باجبون
أي من هوليري إن أدمقي نوقرنقي أصلقر دولمون
ويري أوسّير دِيارقي دوليلقي إنكري وي قجركومونون
أمنتّوي أيقي تيقل ويكي أي إنكري ويكي نلكومونون
هي أدمي إرقي وي تيمندي أرتي ويري مورسمّون
أرتي سِبرتون أرقي آول تي إيوين ؟ وارن أرتي إيومون
آوسمنلقي سِكّرن أرقي سِكّل تاد هسي كلمون
آوبول ملّيقون باجبون ، بـ آوكتِّل قلم ميرمون
وما زال الشاعر يذكرنا بأهوال ذلك اليوم العصيب الذي ستشهد علينا فيه أرجلنا وأيدينا بما كنا نصنع في الدنيا، ويعجب شاعرنا من أولئك الذين يتطاولون في البنيان ويبنون ناطحات السحب ( دُقنجى دُركرو ) -ودقى هو السحاب- متناسين أنهم ضيوف في هذه الدنيا وعابرو سبيل, ويقف حائراً من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويعيثون في الأرض فساداً متناسين أنهم ما خلقوا لهذا ، وأن هناك حساباً وعقاباً في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
شرح الكلمات:
كورُجي : السوط
أوُر: الجناح
كوبمون: لا يساوي / لا يعدل/ لا يكافئ
شارتي: الحديد
تيليويقرل: يلين
هببكن: يستعر
أوقلّن: الوقود
اُومي: لفح النار
وقراد : الحرارة
تورتور: يرص
دوقنجي: السحب
أرومقي: لقمة العيش
هسي : الغش و الخداع
هسي كلمون : لا يغش
أثر الثقافة الدينية :
وإليكم أثر القرآن الكريم والأحاديث النبوية الواضح في هذه القصيدة :
أقولن تندى تورتى كُلون * شوبتود ويكى أروفكومُن
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون) .
إن آ بالكو جابر نوقوى * أرتى كروجى قد جومن-
ديناد أرتى نر والله * كولتىن أوركى من كوبمن
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ)
وو تيبلو باوريى ويل * إن ويرى أندى تود ويرمن
قال تعالى:(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ،إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً)
أرتى نوقولو جتاد اندى * بنجكن اكونون تيبمن
قال تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
هليل إن كارقى آ تور تور دقوقلى
ورد فيما رواه عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, أنه صلى الله عليه وسلم, حين سئل عن إمارات الساعة قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان)
وقد تناول الشاعرفي هذه القصيدة يوم القيامة وجهنم بصورة مبهرة, تقشعر منها الأبدان خوفاً وهلعاً, وبعد كل هذا ألا تصلح لغتنا النوبية أن تكون لغة دنيا ودين؟!

مقالات ذات صلة