*ماسي المهدية في شمال السودان والتاريخ يعيد نفسه*

فتح أهل الشمال والوسط ديارهم للمهدية، وناصروها، ودرّكوا للدراويش ومن معهم من الأمراء القادمين من دارفور، طوعًا وبنية خالصة، باسم الدين ومقاومة الاستعمار المشترك. فكان الجزاء مذابح مهولة، وسبي للنساء، ونهب للأرض، وتجفيف للنيل، ومسح للقرى من الوجود.

وكان من أبرز قادة ذلك البطش الأمير علي فرفار، الأخ غير الشقيق لوكيل الخليفة التعايشي على المتمة، الزاكي عثمان، وكلاهما من دارفور، ومن نُخبة الصفوة التي أحكمت قبضتها على مفاصل البلاد بالسيف والنار في عهد التعايشي. وقد مثّلت مجزرة الزيداب، وهي بلدة تقع في ولاية نهر النيل شمال السودان، ذروة هذا الاستبداد، حين دخلتها قوات علي فرفار في يونيو عام 1897م، بعد أيام قليلة من مذبحة المتمة، فأصدر أوامره الشنيعة بعد تاخر الطعام:

“اركبوهم شلكاية، عدو أو صليح” أي: لا تُفرقوا بين بريء ومذنب، بين طفل وشيخ، بين من سلّم ومن قاوم.

فحدث ما لا تُحتمَل رؤيته ولا يُنسى أثره: قُتل الرجال بالسيوف والحراب، وذُبح الأطفال في أحضان أمهاتهم وهم يستنجدون ولا من مُغيث. بل رُويت شهادات أن بعض الجنود أخذوا الأطفال صفوفًا، وأعملوا فيهم الطعن بحراب “الشلكاية” على التوالي، كما تُذبح المواشي، في مشهد لا يمكن لعقل أن يتصوره، ولا لقلب أن يتحمله.

كانوا يرفعون الطفل بيد ويطعنونه بالأخرى، أو يضربونه بجدار الطين حتى يتوقف صراخه.
أما الرُضع، فقد كانت بعض الأمهات تُجبر على رميهم في النهر أو دفنهم بأيديهن خوفًا من أن يُقتلوا أمام أعينهن، وبعض النساء فُجعن برؤية أطفالهن مطعونين أمامهن وهن مُقيدات.

وسِيقَت النساء سبايا بالحبال، وانتهكت الأعراض أمام الأزواج والإخوة، بلا وازع ولا رادع.وحُرقت البيوت، ونهبت الحقول، وتفرّق الناس في الصحارى، حفاةً، جياعًا، يشيّعون ذويهم في صمتٍ موجوع، ويتوارون من هول المشهد

وقد أعاد التاريخ نفسه اليوم بالحرف والكربون، لا لأن الزمن دائري، بل لأن الوعي التاريخي غائب، والذاكرة الجمعية تم التلاعب بها، ففُتحت أبواب الخراب ذاتها التي فتحت قبل أكثر من قرن. إن ما جرى من قبل في الزيداب، تكرّر اليوم على يد جحافل الدعم السريع، بنفس الوحشية، بنفس الانتهاك، بنفس العقلية التي ترى في اغتصاب النساء وسبيهن أداةً سياسية، وفي حرق القرى وسحق الأطفال انتصارًا.

هذه ليست جرائم حرب عادية، بل جرائم نادرة في سياق الحروب المعاصرة، ومكروهة في معظم ثقافات الأرض، ولا تُرتكب إلا في ظل فكر يرى الإنسان الآخر غنيمة لا شريكًا في الوطن.

وهذه ليست مبالغة في الوصف، بل توثيقٌ متين من مصادر راسخة:

1.الشيخ بابكر بدري، في مذكراته تاريخ حياتي، يروي أنّه في صفر 1315هـ (يونيو 1897م)، بلغه في أم درمان مقتل “حسنين ومن معه” في الزيداب على يد الأمير علي فرفار، بعد أيام من مجزرة المتمة، مما يثبت الترابط بين الحدثين ضمن حملة منظمة.

2.محمد سعيد القدّال، في تاريخ السودان الحديث، وصف حملات الخليفة بأنها “اتسمت بالتقتيل وتخريب القرى، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ”، إشارة صريحة للفظائع في الزيداب والمتمة.

3.تقارير المخابرات البريطانية لسنة 1897، وثائق معاصرة وصفت ما ارتكبه علي فرفار بأنه “كتلة أشبه بالتي حدثت في المتمة”، أي مجزرة جماعية موثقة من طرف خارجي.

4.نعوم شقير، في تاريخ السودان القديم والحديث، بيّن تحوّل المهدية من ثورة دينية إلى سلطة استبدادية قائمة على الغزو والسبي.

5.شوقي بدري، في مقالاته، تحدّث عن فظائع الاغتصاب والقتل والسبي في الزيداب، وأكّد بشهادات معاصرة أن ما جرى لم يكن حادثًا عارضًا بل جريمة ممنهجة ضد مجتمع بأكمله.

6.الروايات الشفوية المتواترة حتى اليوم في الزيداب والمتمة، تنقل صورًا مروّعة: أطفال يُذبحون أمام أمهاتهم، نساء يُسقن بالحبال، شيوخ يُرمى بهم في النيل، باسم خلافة تلبّست بالدين، بينما كانت في حقيقتها مشروع استبداد قبلي دموي.

وإن من يُنكر كل هذا، لا يطعن في مصدر أو رواية، بل يُكذّب ذاكرة أمة، ويستخف بدماء سُفكت، وأعراض انتُهكت، وأسر ما زالت تعيش تحت رُكام الجراح.
ومن يفعل ذلك لا يُناقش من موقع الباحث، بل من موقع المتواطئ مع النسيان، والخائف من مواجهة المرآة.

فنحن لا نكتب هذا من باب بثّ الأحقاد، بل من باب الوفاء للضحايا، ولأنّ التاريخ إذا لم يُروَ كما وقع، يُعاد كما كان.والدم لا يُمحى بالحبر، والظلم لا يُغسل بالصمت، والحقيقة لا تموت بموت شهودها.

فمجزرة الزيداب… ثابتة، موثقة، فاجعة، وشاهدٌ أبدي على أن من ينسى، يُذبح مرّتين.

المصادر:
1.نعوم شقير – تاريخ السودان القديم والحديث
2.بابكر بدري – تاريخ حياتي، الجزء الأول
3.محمد سعيد القدّال – تاريخ السودان الحديث
4.تقارير المخابرات البريطانية لسنة 1897
5.شوقي بدري – مقالات في الراكوبة وسودانايل
6.الروايات الشفوية المتواترة في الزيداب والمتمة ونهر النيل
منقول😡

مقالات ذات صلة