لم يدرك قادة الكفاح المسلح أن الأمل كان معقودًا عليهم، وأن أنفاس الناس في دارفور كانت معلقة بقرارٍ واحدٍ منهم، بكلمةٍ واحدةٍ تخرج في وقتٍ لم يعد فيه للصمت معنى.
لم يدرك مناوي، ولا جبريل، ولا تمبور، ولا رصاص، ولا عبدالله يحي أن الفاشر لم تكن مدينةً فقط، بل كانت تختبر صدقهم جميعًا، وتكشف إن كانوا رجال مواقف أم رجال بيانات.كانت الفاشر تناديهم، تستنجد بهم من تحت الركام، من بين نيران المليشيا التي أحرقت المخيمات وهدمت البيوت واغتصبت النساء، لكنهم صمّوا آذانهم عن النداء.
تركوا المدينة تصرخ وحدها، وتركتهم المليشيا يراقبون من بعيد، بينما كانوا يتحدثون عن الوطن الكبير، وعن التسويات، وعن “سلام جوبا” الذي لم يحمِ طفلًا ولم يوقف دمعة.
نعرفهم كما يعرفهم الناس:
لا يتأخرون عن الميدان، ولا يساومون في المواقف — هكذا كنا نظن.
لكن ماذا حدث؟
ما الذي كبّل ألسنتهم وأقدامهم، وجعلهم يغيبون حين كان الواجب يناديهم بأعلى صوت؟
لقد خذلوا من كانوا يدافعون عن المدينة، وخذلوا المواطنين الذين صدّقوا وعودهم القديمة، وآمنوا أن قادة الكفاح سيحمون الأرض التي خرجوا منها.
لكنهم لم يتحركوا، ولو تحركوا لما حصلت الفاجعة.لقد وقعت الإبادة، حدث التطهير الكامل للفاشر، أمام أعينهم، والعالم يشاهد، وهم غارقون في حسابات السياسة، في صمتٍ مريب يوازي التواطؤ.
كان من الممكن أن تُنقذ المدينة، لو تحركوا بصدق، لو قالوا كلمة، لو استعادوا شيئًا من شجاعتهم القديمة.
لكنهم انتظروا حتى احترقت الفاشر، ثم خرجوا يتباكون، يعتذرون، يعترفون بالتقصير.
أيُّ عارٍ هذا الذي يُغلفهم؟الفاشر لم تكن تطلب المستحيل، كانت تطلب فقط أن يقفوا معها، أن يرسلوا صوتهم، أن يحموا المقاتلين الذين ظلوا يدافعون عنها حتى الرمق الأخير.
لكنهم تركوا المدينة تُذبح، وتركوها تواجه قدرها وحدها، بينما هم يراقبون الخراب من بعيد، متوشحين بالصمت، ومتحصنين ببرود السياسة.
لقد سقطت الفاشر، وسقط معها آخر ما تبقّى من الثقة في شعارات الكفاح.
فمناوي الذي قال إنه “سيحمي دارفور” كان غائبًا حين احترقت دارفور من جديد.
وجبريل الذي وعد بالعدل، عجز عن أن يكون عادلًا مع وجع الفاشر.
وتمبور الذي كان يرفع راية الثورة، تركها تسقط مع كل بيتٍ تهدمه المليشيا.
ورصاص وعبدالله يحي، الذين يعرفون جيدًا معنى أن تُباد قرى بكاملها، اختاروا أن يصمتوا وكأنهم غرباء عن الوجع الذي حملوه يومًا شعارًا.لقد خانوا التاريخ قبل أن يخونوا مدينتهم، وارتكبوا جريمة الصمت في زمنٍ كان الصوت فيه واجبًا مقدسًا.
خيانة الصمت ليست أخف من خيانة السلاح، ومن تخلّف عن نصرة المظلوم ساعة القتل، يحمل وزر الدم ولو لم يُطلق رصاصة واحدة.
الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محروقة، إنها مرآة تُظهر سقوط النخبة التي كانت ترفع اسم دارفور بينما تساوم على جراحها.
لقد كانت المدينة آخر ما تبقّى من كرامة الأرض، فلما تخلّى عنها الجميع، أثبتت أنها وحدها التي تملك الشجاعة.
أيها القادة الذين تأخرتم
لا جدوى من دموعكم الآن، ولا معنى لاعترافاتكم بعد أن غُسل الدم بالدم.
التاريخ لن يسامحكم، ولن يرحم من اختبأ خلف المبررات وهو يرى مدينته تُباد.
لقد سقطت الفاشر، وسقطتم أنتم معها، لأن الصمت في زمن الجريمة جريمة، ولأن كل من صمت عن الإبادة صار شريكًا فيها.
إن دارفور تعرف أبناءها جيدًا، وتعرف من وقف ومن هرب، وتعرف أن من تخلّى عنها اليوم سيتخلى غدًا عن الوطن بأكمله.
وسيبقى اسم الفاشر وصمةً على جبين كل من باعها أو سكت عنها، إلى أن تحرر مدينة الحق ، ويُقتص من كل من خان الصوت والدم.




