*البيان المصري وحدود الأمن القومي في السودان سامي النمر*

البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية العربية المصرية بمناسبة زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان لا يمكن قراءته كتصريح دبلوماسي عابر أو مجاملة سياسية مرتبطة بزيارة رسمية، بل يمثل موقفًا استراتيجيًا متكامل الأركان، يعكس تحوّلًا نوعيًا في مقاربة القاهرة لما يجري في السودان، وينقل العلاقة من مربع المتابعة والدعم السياسي إلى مربع التعاطي الأمني المباشر المرتبط بالأمن القومي المصري.

أول ما يلفت الانتباه في البيان هو التأكيد القاطع على رفض أي كيانات موازية في السودان، وهي صيغة سياسية محسوبة بعناية، تشير بوضوح إلى أن مصر لا تعترف إلا بالدولة السودانية الواحدة ومؤسساتها السيادية المعروفة، وترفض أي محاولات لخلق سلطات أمر واقع أو حكومات موازية أو أجسام سياسية–عسكرية تحاول فرض نفسها عبر القوة أو عبر مظلات إقليمية ودولية. هذا الموقف يعكس إدراكًا مصريًا بأن السماح بتعدد مراكز السلطة في السودان يعني فتح الباب أمام سيناريو الفوضى المزمنة، وهو ما تعتبره القاهرة تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي.

كما أن توصيف وحدة السودان وسلامة أراضيه باعتبارها “خطًا أحمر” يحمل دلالة أمنية صريحة تتجاوز اللغة السياسية التقليدية. مصطلح الخط الأحمر في الأدبيات الاستراتيجية يعني وجود عتبة لا يُسمح بتجاوزها، ويترتب على خرقها رد فعل حاسم. في هذا السياق، تعلن مصر رفضها الكامل لأي سيناريوهات للتقسيم، أو إعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية للسودان تحت أي ذريعة، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو إنسانية. فالدولة السودانية، من منظور القاهرة، كيان سيادي موحد لا يقبل التجزئة ولا إعادة الهندسة القسرية.

ويزداد البيان وضوحًا وحزمًا حين يربط ما يجري في السودان بالأمن القومي المصري ربطًا مباشرًا. هذا الربط ينقل السودان من كونه ملفًا خارجيًا إلى كونه مسألة داخل حسابات الأمن القومي لمصر. فحدود السودان الجنوبية، وموقعه الجغرافي، وصلته المباشرة بحوض النيل والبحر الأحمر، تجعل أي انهيار أو تفكك داخلي فيه ذا أثر مباشر على مصر، سواء من حيث تدفقات النزوح، أو الفراغات الأمنية، أو تمدد قوى إقليمية ودولية معادية للمصالح المصرية. من هنا، يصبح الاستقرار في السودان ضرورة استراتيجية لمصر، وليس مجرد موقف تضامني.

أخطر ما في البيان، وأكثره دلالة، هو الإشارة الصريحة إلى اتفاقية الدفاع المشترك بين السودان ومصر، والتأكيد على حق القاهرة الكامل في اتخاذ كافة التدابير والإجراءات وفقًا لهذه الاتفاقية. هذه الإشارة ليست رمزية، بل قانونية وسياسية بامتياز، وتُفهم باعتبارها رسالة ردع واضحة لكل من يفكر في فرض واقع جديد بالقوة داخل السودان. وهي تعني أن مصر تضع لنفسها إطارًا شرعيًا للتحرك إذا ما رأت أن خطوطها الحمراء قد تم تجاوزها، دون أن يعني ذلك بالضرورة تدخلًا عسكريًا مباشرًا، بل استخدامًا متدرجًا لكافة أدوات القوة، من الضغط السياسي والدبلوماسي، مرورًا بالدعم الأمني والاستخباري، وصولًا إلى خيارات أكثر صرامة إذا تطلب الأمر.

في مجملها، تعكس صيغة البيان انتقال القاهرة من سياسة التحفظ والانتظار إلى سياسة التحديد الصريح للمواقف والحدود. وهو بيان ينحاز بوضوح إلى مفهوم الدولة السودانية الموحدة، ويرفض أي مسارات تسعى إلى شرعنة المليشيات أو تفكيك السلطة المركزية، ويضع السودان ضمن دائرة الأمن القومي المصري المباشر. كما يحمل رسالة واضحة للمجتمع الإقليمي والدولي مفادها أن مستقبل السودان ليس ساحة مفتوحة للتجريب أو الصفقات، وأن أي محاولات لتغيير الواقع بالقوة ستواجه بمواقف حازمة.

وعليه، يمكن القول إن البيان المصري لا يعلّق على زيارة بقدر ما يرسم إطارًا استراتيجيًا جديدًا للتعامل مع الأزمة السودانية، إطار يقوم على رفض التفكك، ودعم الدولة، وربط مصير السودان بأمن المنطقة، مع استعداد واضح للانتقال من السياسة إلى الفعل إذا فُرض ذلك.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole