إستمعتُ لتسجيل يتحدث فيه القيادي بالحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني الدرديري محمد أحمد عن مقال كتبه حول “عربان الشتات” يؤكد فيه أن حرب 15 أبريل ليست سوى الحلقة الأخيرة من حلقات مؤامرة تهدف لتوطين عربان الساحل الإفريقي في السودان بعد تهجير سكانه الأصليين.
قال الدرديري أن هؤلاء العربان ظلوا يبحثون عن وطن بديل يُمثلوا فيه نسبة مقدرة من عدد السكان ويُعترف لهم فيه بحقوق المواطنة وتتوفر لهم فيه فرصاً لم يحصلوا عليها في بلدانهم الأم، مؤكداً أنهم وجدوا ضالتهم في شخص حميدتي (الذي ظل مشروع توطين عرب الشتات في السودان هو مشروعه الأول منذ أن أسس مليشيا سماها الوعيد الصادق سنة 2007).
زعم الدرديري أن لهذه المؤامرة أطرافاً خمسة هى : أوروبا (خاصة فرنسا)، عربان الشتات، الإمارات، قوى الإتفاق الإطاري، الدعم السريع (حميدتي)، وادعى أن المؤامرة مرت بثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى كانت في سنة 2014 عندما أطلق الإتحاد الأوروبي “عملية الخرطوم” الهادفة لجعل السودان مركزاً لإيقاف الهجرة غير المشروعة لأوروبا، حيث إعتبروا (السودان دولة عبور مؤهلة للتمويل ولعب دور الشرطي لوقف تدفق اللاجئين واختاروا الدعم السريع لأن يكون هو هذا الشرطي وهكذا تلقى الدعم السريع عشرات وربما مئات الملايين من أوروبا لتعزيز دوره كلاعب إقليمي مما مكن الدعم السريع و حميدتي شخصياً لأن يقدم نفسه لعربان الشتات في ثوب مقبول لأول مرة).
المرحلة الثانية هى (عاصفة الحزم 2015 التي أدخلت عنصر جديد في المؤامرة وهو الإمارات. عاصفة الحزم مكنت حميدتي من تجنيد عربان الشتات بمرتبات مغرية وبالتالي قدمته لهم كزعيم وقائد حقيقي ).
المرحلة الثالثة (جاءت في 2019 عندما تولى حميدتي منصب نائب رئيس المجلس العسكري، ولأول مرة وجد عربان الشتات واحداً منهم يتولى مثل هذا المنصب الرفيع وبالتالي صار حميدتي بمثابة المخلص لعربان الشتات والضامن لتحقيق حلمهم بالوطن البديل).
قال الدرديري أن أوروبا أرادت التخلص من عربان الشتات في غرب افريقيا وكانت تعلم أن مشروع حميدتي هو جعل السودان وطن بديل لهم وهذا توافق مع هدفين رئيسيين تسعى أوروبا لتحقيقهما:
أولاً : (التخلص من عربان الشتات في الساحل الافريقي لأنهم غير مندمجين في مجتمعاتهم ولأنهم يعملون في تجارة السلاح ولأنهم مرتبطين بالقاعدة وداعش وبوكو حرام ولأنهم يعملون في تنظيم الهجرة غير الشرعية).
ثانياً : (إعادة توطينهم في السودان تجعلهم يعملون ضد الفلول والكيزان ويمثلون حاضنة سياسية للقوى الليبرالية التي لا تمتلك حاضنة شعبية وبالتالي نشأ هذا التحالف غير المقدس بين عربان الشتات ومجموعة الإطاري وحميدتي والإمارات وأوربا).
يعلم الدرديري أن نظريته واهية، مليئة بالثقوب ولا تصمد أمام الحقائق، ولكنه تعمد صياغتها بهذا الشكل المدلس جرياً وراء تحقيق هدفين مفضوحين. أولهما المواصلة في دعاية الزور والبهتان التي أشاعها الكيزان حول تسبب الإتفاق الإطاري في الحرب ودمغ القوى الموقعة عليه بالعمالة والخيانة. وثانيهما هو تبرئة حزبه الفاشل من جريمة إشعال الحرب وإظهاره بمظهر الحزب المتماهي مع رغبات و تطلعات الشعب السوداني.
وإذا تغاضينا عن حقيقة ضعف نظريته وقمنا بمجاراته في حيثياتها، فإنَّ الأمانة كانت تستدعي منه أن يضع الحركةالإسلامية/المؤتمر الوطني على رأس الأطراف التي تآمرت على البلد وحاكت مشروع توطين عربان الشتات فيه وفقاً للمراحل التي صاغها في نظريته عن صناعة وتقوية الفاعل الرئيسي في المؤامرة : حميدتي.
الحقيقة الأولى : يُدرك الدرديري جيداً أن “الإتحاد الأوروبي” لم يلتقط حميدتي من قلب صحارى دارفور وسهولها ووديانها في 2014 بل وجده قائداً (برتبة عميد) لقوة عسكرية صنعتها قيادة الجيش وكانت حينها تتبع لجهاز الأمن و المخابرات، وأن من قام بتنصيبه حارساً لحدود البلد هو المخلوع البشير وليس قوى الحرية والتغيير.
وعندما إنتقد رئيس حزب الأمة الراحل الإمام الصادق المهدي في 2014 – وهو نفس العام الذي إدعى الدرديري أنه تمت فيه المرحلة المهمة في مؤامرته المزعومة لتوطين عربان الشتات – قوات الدعم السريع قام جهاز الأمن بفتح بلاغ ضده في نيابة أمن الدولة تم بموجيه إعتقاله وقال جهاز الأمن في بلاغه أن هذه القوات قوات نظامية وأنها لا ترتكب انتهاكات !
الحقيقة الثانية : شاركت قوات الدعم السريع في “عاصفة الحزم” (2015) بقرار من حكومة الإنقاذ إتخذه القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس المؤتمر الوطني المخلوع، وهو مَن طلب مِن زعماء السعودية والإمارات التعامل مع حميدتي مباشرة وليس عبر القوات المسلحة، وهو كذلك من أطلق عليه لقب “حمايتي”.
الحقيقة الثالثة : من قام بتنصيب حميدتي في منصب نائب رئيس المجلس العسكري في أعقاب سقوط الإنقاذ ليس قوى الحرية والتغيير أو قوى الإطاري بل هى قيادة القوات المسلحة بمن فيها الجنرال ياسر العطا الذي إكتشف فجأة، وبعد أكثر من أربع سنوات أن حميدتي يعمل على توطين عربان الشتات في السودان !
الحقائق أعلاه تكشف بجلاء تدليس الدرديري واستخفافه بعقول الناس بطرح نظرية واهية وكأن ذاكرة الشعب السوداني ضعيفة للدرجة التي تنسى معها هذه البديهيات التي شهدها التاريخ القريب، وهو الأمر الذي يستدعي السؤال التالي : لماذا صمت الدرديري عن المعلومات الخاصة بخيوط المؤامرة التي سرد تفاصيلها ومراحلها الممتدة منذ عام 2014 ولم يفتح الله عليه بالحديث عنها طوال عشر سنوات؟
إن أكثر ما يثير الشفقة على بؤس نظرية المؤامرة هو إدعاء صاحبها أن الأوربيين وجدوا ضالتهم في الدعم السريع الذي قدَّروا أنه سيشكل الحاضنة السياسية للأحزاب الموقعة على الإتفاق الإطاري (أسماها الليبرالية) لأنها تفتقد للسند الشعبي (يا للهول !) هذه الأحزاب تضم حزب الأمة القومي والطيف الغالب من الإتحاديين، وهما الحزبان أصحاب الغالبية التاريخية في الوطن الممحون.
إذا صدقت نظرية توطين عربان الشتات، وهى كاذبة، فإن المتورط الأكبر فيها هو حزب الدرديري ونظام الإنقاذ البائد ورأسه المخلوع (القائد الأعلى للقوات المسلحة)، وليس لقوى الإتفاق الإطاري أية علاقة بها.