(1)
اِسْتوْقفتْني العبارة البليغة اَلتِي اِسْتنَّهَا وَالِد اَلطبِيب الإنْسان الدُّكْتور عَبْد الرَّحْمن حمد عُثْمان الزُّبيْرْ، وَالتِي تَتَلخَّص فِي: “إِنَّ اَلْمَودة لا تَحْتاج إِلى قرابَة، وَلكِن القرابة تَحْتاج إِلى مَودَّة”، وَجسَد الابْن عَبْد الرَّحْمن هَذِه العبارة فِعْلًا وقوْلًا عِنْدمَا سَألَه اِخْتصاصيُّ العناية المكثَّفة فِي مُسْتشْفَى حمد اَلْعام بِالدَّوْحة عن علاقَته بِالْمريضة “مَصيرة”، مُسْتفْسرًا بِقوْلِه: “هِي شَغَّالة مَعاكِم؟”، يَقُول عَبْد الرَّحْمنْ: ” لَم أَجِد توْصيفًا مُناسِبًا لِعلاقتنَا الممْتدَّة بِهَذه الشَّابَّة الإنْدونيسيَّة، ولكنِّي شَرحَت لَهُ: هِي عَلاقَة مُتجاوزة لِهَذا التَّوْصيف قطْعًا بِمراحل، فَهِي مِن أَهْل مودَّتنا.” إِنَّه وصف نبيل (هي مِن أَهْل مودَّتنا) فِي حقِّ سَيدَة إِنْدونيسيَّة لَيْس بيْنهم وَبَينهَا وَشِيجَة قُرْبى، بل قضتْ مَعهُم خَمسَة عشر عامًا، مُخْلِصة فِي أَدَاء مَهَامهَا الوظيفيَّة، قَرِيبَة مِنْهم وِجْدانًا وإحْساسًا. وَيصِف عَبْد الرَّحْمن هَذِه اَلْمَودة بِقوْلِه: “دَخلَت مَصيرة حياتنا، وانعجنْتْ بِتفاصيلهَا السُّودانويَّة، فصارتْ تُجيد عمل القرَّاصة وَمَلاح البامية المفْروكة، وَكَأنهَا نَشأَت فِي أَريَاف السُّودان. وَعبَّر السَّنوات الخمْس العشَرة الطَّويلة، تَشَابكَت عَلاقَة “مَصيرة” مَعنَا ومع أَهلُنا وأصْدقائنا، ولم أَجِد وصْفًا يُلخِّص ذَلِك أَفضَل مِن سُؤَال مَصيرة نفْسهَا لِعفْرَاء [زوْج عَبْد الرَّحْمنْ] فِي إِحْدى إِجازتنَا فِي السُّودان، وَهِي تُشَاهِد حَفاوَة أَهْل عَفْراء بِإحْدى الزَّائرات “، ثُمَّ تَستوْضِح عن ذَلِك الاحْتفاء قائلَةً: “هِي بَتبَقِى لَيِّن؟” وَيختِم عَبْد الرَّحْمن هَذِه اللَّوْحة الإنْسانيَّة بِشهادة مُهمَّة، مُفادها: ونشْهد اَللَّه “أنَّ علاقتهَا بِنَا تَجَاوزَت وَمُنذ زَمَان بعيد، كَونُها عَلاقَة تعاقديَّة تُقيم فِي مَقَام اَلعدْلِ، لِتكوُّن عَلاقَة إِنْسانيَّة، دوْمًا فِي مَقَام اَلفضْلِ، فيَا مَوْلَانا نسْألك بِاسْمك الأعْظم أن تَتَفضَّل عليْهَا وعليْنا، بِفَضل عافيَتك العاجلة والتَّامَّة والدَّائمة.” لَعمرِي! لَم أَجِد كَلمَة أَرفَع مِن كَلمَة عَبْد الرَّحْمن بيانًا وفعْلًا فِي تَأكِيد أنَّ اَلْمَودة لَا تَحْتاج إِلى قرَابَة رحمٍ.
(2)
إِذن مَا عَلاقَة “قِصَّة مَصيرِه” بِسيرة فاولو؟
فاولو هو اِبْن جَنُوب السُّودان، اَلذِي عاش فِي قَريَة قَنتِّي مُنْذ عام 1967، وشارك أَهلُها فِي أفْراحهمْ، وشاطرهم فِي أتْراحهمْ، وأكْل مَعهُم الملْح والْملَّاح، وقرْع اَلمُوية فِي الشَّرْقيَّة والْغرْبيَّة، وضرْس اَلشتْلِ، وَقفَز التَّمْر، وقلْع الأشميق وفتْل الحبالْ، وَحْش القشِّ، وَسبَح فِي النِّيل، وَلعِب كُرَة القدم مع فريق حيِّ السُّوق؟ إِنَّ العلاقة تَكمُن فِي أنَّ فاولو قد تَعرَّض لِحادث حَركَة فِي بِداية الثَّمانينيَّات مِن القرْن العشْرين، إِذ سقط مِن أَعلَى سَيَّارة أَولَاد أَحمَد بَاشَا النِّيسان، وَدُعيَت السَّيَّارة قَدمَه اَليُمنى فهشَّمتهَا وَفِي ذَلِك الوقْتِ كُنْت فِي مُنَاسبَة بِمنْزل جِدِّنا الحسن سَيِّد أَحمَد مُحمَّد خَيْر (الْهجْهوج ) ، وَحضَر أحد الصِّبْية صائحًا إِنَّ فاولو قد سقط مِن شَاحِنة أَولَاد أَحمَد باشا. فَخرَج نفر مِنَّا لِمشاهدة الحادث، فَوَجدنَا فأوْلى مُلْقِيا على ظَهرِه فِي سرير (عنقريب)، مَوضُوع فِي صُنْدُوق سَيَّارة تُويوتَّا، وَكَان مِن بَيْن اَلحُضور المرْحوم الدُّكْتور يَعقُوب مُحمَّد فقير (طيَّب اَللَّه ثَرَاه)، فَقَام بِرَبط رَجُل فاولو فَوْق الرُّكْبة بِخرْطوم مِياه، وَطلَب مِنَّا الذَّهَاب بِه إِلى مُسْتشْفَى الدُّبَّة. وَقبِل التَّحَرُّك صَوْب مُسْتشْفَى الدُّبَّة، أَخذُنا مَعنَا فاروق بشير عَلِي رمْليٍّ، مَحضَر العمليَّات بِمسْتشْفى الدُّبَّة آنذاك. وعنْدَمَا وصلْنَا الدُّبَّة فِي نَهَار يَوْم قائظ، ذهبْنَا مُبَاشرَة إِلى مَركَز الشُّرْطة، واسْتخْرجْنَا أُورْنِيك (8) اَلذِي بِموجِبه تَتِم مُعَالجَة فاولو، ثُمَّ تَحركِنا إِلى المسْتشْفى، وَلكِن فِي المسْتشْفى لَم نَجِد اَلطبِيب المناوب، وَإِن لَم تَخُني الذَّاكرة كان اِسْمه جعْفرًا. فَذَهبنَا إِلَيه فِي مَنزلِه، وَطَلبنَا مِنْه النَّظر فِي حَالَة فاولو.
لَكنَّه كان غاضبًا مِن تَطَفلنَا على ساعات رَاحَتِه الخاصَّة. وعنْدَمَا رأى فاولو، قال لَنَا: هل عِنْدكم أُورْنِيك (8)، قُلنَا لَه نَعمَ. فَرْد عليْنَا قائلاً: يَجِب أن تذْهبوا بِه إِلى مُسْتشْفَى دنقلا. إِلَّا أَنَّه فَجِئ بِردِّنَا عَليهِ، عِنْدمَا قُلنَا لَهُ: ” أَكتُب على الأورْنيك إِنَّك لا تَستطِيع عِلاجه، ولَا تُعْطِيه إِسْعافات أَولِية، وَإذَا تُوفِّي فِي اَلطرِيق تَكُون أَنْت المسْؤول”. فانْفَجر فِينَا ثائرًا وممتعطًا؛ لِأَنه شعر بِأنَّ رَدنَا إِلَيه فِيه نَبرَة تحدٍّ ووعْي بِحقوق اَلمرِيض المشْروعة، فأخْرجنَا مِن بَهْو غُرفَة العمليَّات. وبعْد أن تَشاوَر مع فَارُوق بشيرْ، عاد إِليْنَا قائلاً: هذَا اَلمرِيض يَحْتاج إِلى نَقْل دم قَبْل إِجرَاء العمليَّة إِليْه، فَقُلنَا لَهُ: “نَحْن حضرْنَا لِلتَّبَرُّع لَه بِالدَّم”، فأسْقط فِي يَديهِ. وبعْد ذَلِك دخل غُرفَة العمليَّات، وأخْطر فاولو بِأَنه سيقْطع اَلجُزء اَلمُهشم مِن مُقَدمَة قَدمَه اليمْنى، فاسْتجاب فاولو لِلطَّلَب، وَبُترَت قدمه. وبعْد سُويْعَات مِن إِخرَاج فاولو مِن غُرفَة العمليَّات، حضر عدد مِن الرِّجَال والنِّساء مِن قَنتِّي حيِّ السُّوق لِزيارة فاولو ومعاودته والاطْمئْنان على صِحَّته.
وَفِي تِلْك اللَّحْظة الحزينة والْمؤثِّرة، اِسْتغْرب الدُّكْتور جَعفَر اَلأمْرِ، وَسأَل الحضور، قائلاً: مَا أَهَميَّة هذَا الرَّجل؟ فقيل لَه إِنَّه مِن “أَهْل مَودتِنا”؛ لِأنَّ اَلْمَودة لا تَحْتاج إِلى قرابَة؛ وَلكِن القرابة تَحْتاج إِلى مودَّة.