ها قد لاحت ليالي الشتاء واطلت نهارات نضرات بالحنين . وتحتشد الذكري في شغاف القلب مفعمة بالانين . ومن خلف الشرفة يلوح شغب الطفولة وربوة الصبا وشرخ الشباب . وترفرف الطيور مغردة باشجان كستها باجنحتها المرهفة عند اطراف المنزل العتيق وسقتها عبق العشيرة عند الافراح والاتراح . وثمة ضحكة مكتومة لم تكتمل بعد مخبوءة بين ثنايا الامل ونسمات الحلم بالعودة الي جدران احتوت كل مافينا وكانت بردا وسلاما علينا لعقود قد خلون من المحبة وجيرة هم اشد وثاقا وارق فؤادا عند الشدائد .
للعام الثاني علي التوالي يشتكي الدار من الفراق ويكتوي السكان من النزوح والشتات .. منذ عام 1942 ظل ذاك الدار الخرطومى العريق مشرعا بالاهل والاسرة والعشيرة والاصدقاء . وكان الدار شاهدا علي الاحزان والافراح متبسما لميلاد طفل جديد ، هامسا طربا عند شاي الاصيل ، يتراقص برفق حيال وجبة شتوية ساخنة حيث يكون ” طبق القراصة ” حاضرا في ليالي شتوية في ازمنة الطفولة الغابرة وعندها يصرخ الاخ الاكبر ” احذروا البرد فقد قتل اخاكم ابا ذر ” .
وقد كان والدي رحمة الله عليه مغرما بالمديح النبوي هائما بالقراءة شغوفا بالصحف والمجلات عاشقا لغناء الحقيبة حاذقا بالحان برعي وغناء ابو داوود مترنما مع محمد احمد عوض . وكان له هوي خاص لاغنية الامان الامان . ورغم سمت الصمت التي لازمه طوال حياته الاّ انه كان ماهرا متذوقا للفنون متقد الذاكرة عاشقا لمدينة الخرطوم ، خبيرا في معرفة مدي موثوقية هطول الامطار واحوال الطقس . وكان طبيب الاسرة الخاص له صيدلية منزلية ووصفات بلدية للاستشفاء. وكان يحنو علينا ولا ينام وقد مس اي من فلذة كبده شئ من الداء . وقد ورث ابي صفة الصمت من والده صاحب الدار الاصيل فكان جدي له الرحمة والمغفرة متبحرا في علوم الصمت والهدوء . وقد نال نصيبا من العلم في مدارس غوردون وتدرج لقمة العمل الوظيفي في ديوان الحكومة حينئذ . وشيَد الجد داره بمشقة استطالت لتكون رحيبة لذريته واحفاده ولكن لم يكن يدري ان الغرباء سوف يسلبون عرقه وجهد اجيال من بعده وإنا سوف نصير “الغرباء” عن ديارنا . ويتضجر الدار من البعد والجوي ولوعة الهجرات ولا يستقيم عود المنزل وقد فارقه الاحبة وتفرقت ريحهم .،
ولكن رغم مرارة الفراق لم تنقطع عنا طيور الامل بان ستكون لنا حوبة و في ذاك الحوش الفسيح ولنا مع الافراح جولة ووصال ولقاء .. وان طالت الاحزان فلكل ليل صباح .. فهل نعود الي الفردوس المفقود مرة اخري ؟
زرعوك في قلبي
يا من كساني شجون
ورووك من دمي
ياللادن .. العرجون
أنا في انتظار عطفك
مرت عليّ سنين
أسعدني بنظرة
وخليك علينا حنين
* كلمات محمد عبد الله الامي غناء عيد العزيز محمد داوود