الدكتور عبد اللطيف محمد سيدأحمد
رحيل النُّبل والوفاء
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
الموت صدمة قاسية وحقيقة كونيَّة باقية، نحاول أن نتناساه بقصد ودون ذلك، غاضين الطَّرف عن قول سبحانه وتعالى: “إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون”؛ ولكن نتذكَّره عندما يطبَّق علينا، ويأخذ أحد الأصدقاء، أو الأحبَّاء، أو الأقرباء الأعزَّاء، حينها نشعر بقساوة كيله ونتجرَّع مرارة اختياره للجياد. ولذلك كان نبأ وفاة أخي العزيز الدكتور عبد اللطيف محمد سيدأحمد، في يوم الجمعة الموافق 11 أبريل 2025، صدمةً قاسيةً. أعاد إلى الذَّاكرة شريط ذكريات طويل، كان الفقيد طرفًا مؤثِّرًا فيه. وأذكر من أحداثه التي ترتبط بشخصي الضعيف، دوره في ترتيب إجراءات سكنيّ بداخليَّة النِّيل الأزرق (أ) عندما قُبلت بكلية الآداب، جامعة الخرطوم عام 1983، وحسن استقباله لزياراتي المتكرِّرة إليه في داخليَّة بحر الزَّراف، وإرشاداته الصَّائبة أن التحق ببرنامج الماجستير في التَّاريخ بجامعة أمِّ درمان الإسلاميَّة، وتشجيعه بأنَّ أقدم إلى وظائف الضُّبَّاط الإداريِّين المعلنة بلجنة الاختيار المركزيَّة، واستضافته لنا بمنزله العامر بامتداد ناصر بعد التخرج ومرحلة “الطيران المدني” (أي البحث عن الوظيفة) دون كلٍّ ولا ملٍّ. وفوق هذا وذاك إصراره المستمرُّ على التَّواصل مع أهل أرحامنا في أفراحهم وأتراحهم داخل العاصمة الخرطوم وخارجها؛ ولا أنسى رحلتنا إلى مدينة شندي لحضور مراسم زواج المرحوم موسى خلف الله محمد موسى، ورحلتنا إلى الحصاحيصا لتقديم واجب العزاء في وفاة الدُّكتور الصيدلاني عبد الرَّحمن حسن عيسى بشارة، ورحلتنا الطويلة الشاقة إلى سنَّار للمشاطرة في وفاة الجدَّة زينب محمَّد بخيت (كور).
(2)
أخي عبد اللَّطيف وأنت الآن في رحاب عزيز مقتدر، أتذكَّر تواصليّ الأخير معك في أوَّل أيَّام عيد فطرك الأخير، وصوتك يحمل عبر الأثير طرفًا من تواضعك الجمِّ، وأدبك الرَّفيع، وتعفُّفك الجميل، وكلماتك المنتقاة المتناغمة، وتصالحك مع المرض الَّذي طال أمده، كأنَّك مخلوق من نسل أيُّوب عليه السَّلام. حقًّا كنت طيِّب القلب، وهادئ الفؤاد، وديع النَّفس، رقيق المشاعر، وحلو الكلام، وصافي السَّجايا، وحميد الخصال. ارتقت علاقتي بك إلى مقام المودَّة الحقَّة الَّتي لا تحتاج إلى صلة قرابة مباشرة، على الرَّغم من أواصر الرَّحم الَّتي تجمَّع بيننا.
(3)
وتدفعني هذه التَّوطئة إلى رثائك عبر ثلاث صفات مفتاحيَّة، تعكس طرفًا من حقيقة شخصك الفاضل ومصدر الفضائل ومكارم الأخلاق، الشخص الَّذي كنت أعرفه عن قربٍ، وأتواصل معه دوَّن قيدٍ أو شرطٍ، وأحب تجاذب الحديث معه لساعات طوال وفي أمور شتى.
وأولى هذه الصِّفات “التَّواضع”، الذي أشهد اللَّه أنَّه يضعك في قائمة الموطئين أكنافًا الَّذين يألفون ويُؤلِّفون؛ ولذلك نجد علاقاتك كانت منبسطةً عبر الزَّمان والمكان، فأصدقاؤك وأحبَّاؤك كانوا من أجيال مختلفة، الأستاذ عبد العاطي عبد المكي، والدُّكتور عبد اللَّه عبد الرَّحيم، والأستاذ صالح عثمان صالح، والمهندس عمر حسين عبد الماجد، والأستاذ عادل عوض سلمان، والأستاذ محمَّد إبراهيم أبو شوك؛ وينتسبون إلى أمكنة متفرِّقة الدُّكتور أحمد علي المهدي (الشَّرفة- ولاية الجزيرة)؛ والدُّكتور عبد القادر محمَّد أحمد (أبو سِليْم- ولاية نهر النيل)؛ الأستاذ مهدي عبد الرَّحمن أكرت (أم قرفة – ولاية شمال كردفان) .
وثانيها صفة الإنسانيَّة، الَّتي وصفها دوغلاس نيوبولد، السِّكرتير الإداريُّ (1939-1945) في حكومة السودان الإنجليزي-المصري (1898-1956) بأنَّها تقوم على ثلاثة مرتكزات: الظُّرف، والخيال، والتَّسامح. ويقصد بالظُّرف الاستماع إلى الآخرين باهتمام، وترك المجال لهم للتَّعبير عن مشاعرهم وآرائهم، لجذب ودهم وكسب قلوبهم، فكنت أخي عبد اللَّطيف من أولئك القلَّة التي تجيد إتقان هذا الفن الإنساني، الأمر جعل شخصيتك شخصيَّةً جذَّابةً ومحبَّبةً لكلِّ أصدقائك ومعارفك. ويقصد بالخيَّال القراءة السَّليمة للظُّروف الموضوعيَّة المحيطة؛ لفهم الواقع بصورة أفضل وتصوير أكثر إنسانية وحيويَّةً. وتتجلَّى هذه الميزة في مهاراتك على تجاوز كثير من المواقف الحرجة الَّتي مرَّت بك في تاريخ حياتك القصير بحساب السَّنوات المعدودات. ويقوم التَّسامح على نظرتك النسبيَّة إلى الحقيقة، وذلك بحكم تخصُّصك في علم الفلسفة، الذي جعلك تدرك بأنَّ المواقف والآراء والأذواق متعدِّدة مثل تعدُّد ألوان قوس قزح؛ ولذلك لا داعي للتَّعصُّب للمواقف، أو الآراء، أو الأذواق الفرديَّة الَّتي تفسد الود بين النَّاس؛ لأنَّ اختلاف الرُّؤى عند العقلاء لا يفسد للودِّ قضيَّةً. ولذلك كنت سمحًا إذا بعت وسمحًا إذا اشتريت، وسمحًا إذا قضيت وسمحًا إذا اقتضيت.
وثالثها صلة الرَّحم، الَّتي أجدتها بكفاءة عالية وطيب خاطر يلامس أطراف إنسانيَّتك الرَّفيعة، ويتجلَّى ذلك في اهتمامك بصلات أرحامك القريبة والبعيدة، مفشيًا السَّلام بينها، محسِّنًا استقبالها ووفادتها، ومواصلاً على زياراتها من دون لوم وعتاب، ومغدقًا العطاء إلى بعضها، حتَّى لو كان بكسبك خصاصةً، وذلك عملاً بقوله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: “من سرِّه أن يمدَّ له في عمره، ويوسِّع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السُّوء، فليتَّق اللَّه وليصلَّ رحمه.”
وقد شهد على ذلك كلُّ الَّذين كتبوا عنك بعد رحيلك الفاجع من زوايا محبتهم المختلفة إليك، وأكَّدوا على أنَّ الوظيفة بأسمائها المتعدِّدة لم تغيِّر من إنسانيك في شيء، بل وظفتها لخدمة المصلحة العامَّة في تأسيس مدارس المتفوِّقين في الولاية الشَّماليَّة، وفي إعادة استيعاب المعلِّمين الأكفاء الَّذين بلغوا السن المعاشية. وعندما اشتدَّ عليك المرض لم يمتد بصرك إلى المال العامَّ، الَّذي كان نهبًا للفاسدين، بل آثرت البقاء بعيدًا عن مواطن الشبهات بعزيمة غفاريَّة، وصبر لا تلين عزائمه.
(4)
يا اللَّه يا حليم يا كريم ها هو عبدك الضعيف عبد اللَّطيف ولد خديجة بنت دفع الله يقف أمام باب رحمتك بتواضعه، وإنسانيَّته، وصلة رحمه، وصبره على المرض أن تغفر له وترحمه برحمتك الواسعة الَّتي وسَّعت كل شيء؛ ويضع في ميزان عدلك صلاته وصيامه وزكاته وحجَّه، فأجعل ميزان حسناته راجحًا وقبره روضة من رياض الجنة، وأدخله فسيح جناتك في الفردوس الأعلى مع الصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين وحسن أولئك رفيقًا، وأكنز البركة في ذرِّيَّته، وألزمنا وإيَّاهم الصَّبر وحسن العزاء. إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون.