*”المجد للبندقية”… عبارة تختزل انهيارًا مريرًا لحلم شعبٍ خرج يطلب الحرية والسلام والعدالة..نزار خيري رئيس تحالف الخط الوطني ٣٠ أبريل ٢٠٢٥*

.

حين صدح رئيس مجلس السيادة بهذه الكلمات، بدا وكأن صوت الرصاص قد غلب صوت الجماهير التي ملأت الشوارع في ديسمبر، أولئك الشباب الذين واجهوا الرصاص بصدور عارية، لا يحملون سوى أحلامهم بوطنٍ كريم. شباب الثورة الذين سقطوا عند الجسور، وتحت وابل القمع، لم يكونوا يبحثون عن مجد البندقية، بل عن كرامة الإنسان، وعن دولة مدنية عادلة تليق بتضحياتهم.

من بين هؤلاء الشهداء، كان طارق أحمد علي عبد الجليل، أول شهداء ثورة ديسمبر في مدينة عطبرة، الطالب المتفوق بكلية الهندسة، الذي حلم بوطن يبنيه لا وطن يُدفن فيه. وقال عبدالسلام كشة، أحد أيقونات الثورة: “نخاف على ثورتنا من النخب”، وهي مقولة تختصر كل ما أعقبها من خذلان وتراجع عن المبادئ الأولى.

ولا بد أن نُذكّر، في خضم هذا المشهد المعقّد، أن الجيش السوداني، في لحظة مفصلية، انحاز إلى ثورة ديسمبر، تلك الثورة التي لم تحمل سلاحًا سوى إغلاق الطرقات وحرق “اللساتك” تعبيرًا عن الغضب، وعن رفض الظلم والديكتاتورية. كان ذلك الانحياز لحظة فارقة، حين التقت إرادة بعض العسكريين مع نبض الشارع، في مشهدٍ نادرٍ من الانتصار للحق.

لكن، للأسف، لم يُستثمر هذا الانحياز كما يجب، وسرعان ما بدأت ملامح الالتفاف على أهداف الثورة تتشكّل، حتى صار السلاح – الذي لم يكن يومًا خيار الثوار – هو اللغة السائدة، بدلًا من الحوار الوطني والإرادة الشعبية. وهكذا، تحوّلت الثورة من حراكٍ مدني واسع إلى ساحة صراع دموي، ضاعت فيه البوصلة، وتاهت فيه أحلام الوطن.

التاريخ لن ينسى دماء الشهداء التي سالت في القيادة العامة، ولن ينسى الأحلام التي وُئدت بعد أن ظنّ الناس أن نور الحرية بدأ يشع. إن استخدام خطاب يُمجد القوة في هذا السياق لا يُعبر عن إرادة شعب، بل يعمّق الجراح، ويغلق أبواب المصالحة الوطنية.

والحقيقة المُرّة أن الطريق إلى هذا الواقع المُزري بدأ حين تم تعديل الوثيقة الدستورية، في لحظة ضعف سياسي، وتحت ضغط الموازين غير المتكافئة. كان ذلك التعديل – الذي سمح بإدخال أطراف مسلحة وتقاسم السلطة بعيدًا عن التوافق الشعبي الحقيقي – بمثابة تنازل عن جوهر الثورة. ورغم حسن نية البعض، إلا أن تلك الخطوة أفرغت الوثيقة من محتواها، ومهّدت لإضعاف مؤسسات الانتقال، وزرعت بذور الانقسام، حتى وصلنا إلى الحرب التي حرقت الأخضر واليابس اليوم.

وبحسرة، نقول: إن الحرب التي اجترَّ إليها الشعب السوداني، والذي عانى وما يزال يعاني من ويلاتها، هي نتيجة لهذا الفشل القيادي والسياسي. حرب ما كان لها أن تندلع لولا الخيانة الصامتة لأحلام الشهداء، والعجز عن تحويل الثورة إلى مشروع دولة.

ليس المطلوب إدانة الأشخاص، بل مراجعة المسار بشجاعة. النقد البناء يوجب أن نقول: إن التغيير الحقيقي لا يتحقق بالبندقية، بل بإرادة سياسية تضع مصلحة الوطن فوق المصالح الضيقة، وباحترام دماء الشهداء الذين حلموا بسودانٍ يسع الجميع، لا بسودان تحكمه فوهة البندقية.

إن استعادة المسار المدني الديمقراطي لا يزال ممكنًا، لكنه يتطلب مصارحةً وطنية، وعدالة انتقالية، واعترافًا بأن من ضلّ الطريق يمكنه أن يعود، فقط إذا وضع السلاح جانبًا، وأصغى لنبض الشارع الذي ما زال يحلم.
نزار خيري
رئيس تحالف الخط الوطني
٣٠ أبريل ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة