*البحث عن طبقة وسطي (١-٣)** على عسكوري ٤ اغسطس ٢٠٢٥*

مدخل

في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي انهارت امبراطورية روسيا الشيوعية وخرجت كل الدول التى كانت تدور في فلكها، ما كان يعرف بالدول الاشتراكية واختطت لنفسها طريقا للتنمية الرأسمالية.
روسيا نفسها مهد الشيوعية طوت صفحة الاشتراكية وتبنت النظام الرأسمالي، اكثر من ذلك فالصين التى ما تزال تدعي الشيوعية طبقت نظاما رأسماليا وان كان يتبني ” رأسمالية الدولة”. وهكذا لم يتبق في العالم نظام “اشتراكي” يقوم على ملكية الدولة لوسائل الانتاج الا كوريا الشمالية وجزيرة كوبا، والاثنين لا تأثير لهما على الاقتصاد العالمى او التجارة العالمية، فكوبا كما هو معروف جزيرة صغيرة لا يمكن القياس او البناء على تجربتها، اما كوريا الشمالية فهي دولة منغلقة على نفسها لا تتوفر عنها معلومات يمكن الاستناد عليها وتحليلها.
اذن، فعندما نتحدث الان عن تنمية اقتصادية او تغيير سياسي انما نتحدث عن تنمية اقتصادية او تغيير سياسي في اطار نظام رأسمالي.

هذا واقع العالم من حولنا. اما في بلادنا، فالباحث يواجه معضلة حقيقية في تصنيف طبيعة النظام الاقتصادى المتبع منذ العام ١٩٨٣. فلا هو نظام رأسمالى، اشتراكي او اسلامي! ربما الصحيح انه خليط من كل ذلك! هذا وضع اقتصادي اقل ما يمكن ان يوصف به انه فوضوى! هذه الفوضي الاقتصادية التى ظلت تترنح فيها بلادنا تجعل ادارة الاقتصاد الكلي امرا عسيرا جدا. فالاقتصاد هو علم الحساب و الاحصاءات والميزانيات والبرامج المحسوبة والخطط، وفي ظل الفوضي السائدة لا يمكن تحقيق ايا منها!
مثلا، للاقتصاد الرأسمالي اسس وضوابط ومعايير وسياسات لادارته، وكذلك نقيضه الاشتراكى، اما ما يسمى بالاقتصاد الاسلامى (ان كان هنالك واحدا)، فحتى الان لا توجد مفاهيم او مباديء او ضوابط او موجهات نظرية معروفة يمكن اتباعها على مستوى الاقتصاد الكلي للدولة. كل الموجود هو سياسات مصرفية تقوم على تحريم سعر الفائدة في البنوك باعتباره رباء، والرباء كما هو معروف محرم دينيا، هذا منتهي اجتهاد دعاة الاقتصاد الاسلامى الذى ينظر له في ” الغرب الصليبي” في مدرسة الاقتصاد بجامعة شيكاغو التى اسس لها اليهودى “ميلتون فريدمان”!
ترى هذه المدرسة ان ليس هنالك ثمة ضرورة للدولة وان السوق قادر على تنظيم نفسه ويجب الحد من دور الدولة الى اقصي درجة ممكنة. كان وزير المالية الاسبق عبد الرحيم حمدى من مؤيدي نظريات فريدمان وشرع في تنفيذها مباشرة عند توليه الوزارة. تخرج كل نظربات ما يسمي بالاقتصاد الاسلامى من باحثين في تلك المدرسة ومن مراكز امريكية اخري (راجع كتابي حياكة الدجل).
والحال كذلك، ليس مستغربا ان تكون كل السياسات المصرفية التى طبقت سياسات تقوم اساسا على التجارة بصيغ مختلفة، سريعة العائد. ولذلك لوحظ تجنب المصارف الاسلامية للاستثمارت طويلة الاجل كما يحدث عندنا (لا تمول البنوك العقار مثلا). الا ان الاسوء من ذلك ان المصارف الاسلامية تفرض حاليا فوائد على تمويلها تزيد على الثلاثين في المائة وهى اعلى بكثير مما تفرضه البنوك التى يصفها دعاة الاقتصاد الاسلامى بأنها ربوية.
ومع كل محدودية نظربات الاقتصاد الاسلامي الكلية فإن سياسات التمويل المصرفية – مع اهميتها- تبقي مكون واحدا من الاقتصاد الكلى. أكثر ما يفضح القصور الفكري لمنظرى الاقتصاد الاسلامى هو تمسكهم بآليات موارد الدولة التى ابتدعها النظام الرأسمالى كضريبة الدخل، ضرائب الارباح، الجمارك ورسوم الانتاج الخ.. كل هذه اليات ابتدعها النظام الرأسمالى لتمويل خزينة الدولة، وتمسك بها منظروا الاقتصاد الاسلامي لعجزهم عن ايجاد صيغ بديلة لتمويل الخزينة العامة. و المتابع لاوضاع الاقتصاد السوداني خلال الاربعة عقود الماضية يخلص مباشرة الى ان بلادنا اصبحت حقل تجارب لافكار لم تكتمل بعد، والعجز الفاضح لمنظري الاقتصاد الاسلامى لابتداع صيغ اسلامية لتمويل الخزينة العامة غير آليات النظام الراسمالي. ولست هنا بصدد مناقشة ” اسلمة الرأسمالية المتوحشة”، ولكن من ما لا جدال فيه ومن واقع التجربة ان ” اسلمة” الاقتصاد بالصورة التى تم بها حمل الفقراء فوق طاقتهم، بل سحقهم! وذلك امر يتوجب على اولئك الدعاة اعادة النظر فيه وليس تجاهله وغض الطرف عنه! فأقل ما يمكن ان يقال عنه ان لم يحقق العدالة بل زاد المظالم والفوارق الاجتماعية والطبقية والعدالة هي جوهر الاسلام. فالعدالة التى يدعو لها الاسلام ليست عدالة التقاضي في المحاكم فقط، بل العدالة في حق الرعية في العيش الكريم والمساواة في الفرص وهو امر يقع في صميم واجبات الحاكم والسلطة: قال تعالى:” يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوي واتقوا الله ان الله خبير بما تعلمون” (المائدة).

ان تدعي الدولة انها تطبق نظام اقتصاد اسلامي لكنها في ذات الوقت تطبق كل اليات الاقتصاد الرأسمالي بأكثر من ما يطبق في مهد الرأسمالية اراه تناقضا يكبل الاقتصاد الكلى ويعيق نموه. فمن جهة اصبحت الدولة تقبل آليات الاقتصاد الرأسمالي وفي الجانب الآخر ترفض توابعها من مساواة في الفرص واحترام القدرات الفردية وحرمانها وابعادها بقرارات قائمة على التحيز الايدولوجي!
الاقتصاد الرأسمالي حزمة او منظومة واحدة لا يمكنك انتخاب ما تراه منها وترك الباقي، فأنت مثلا لا يمكنك ادارة محرك السيارة دون وجود بطارية، كما لا يمكنك قيادة السيارة دون اطارات! فالواقع يقول اننا لم نطبق الرأسمالية كما هي، كما اننا لم نرفض الياتها، وانتهينا الى خليط دمر الاقتصاد وافقر المواطنيين!
حقيقة يصعب على دارس للاقتصاد فهم ادارة البنك المركزى للاقتصاد دون وجود سعر الفائدة لان سعر الفائدة آليه مفصلية للتحكم في التضخم، وتحجيم الانفاق وتشجيع الاستثمار الخ، وان كنا نرفض سعر الفائدة لاسباب دينية علينا رفض بقية آليات الاقتصاد الرأسمالي لانها ببساطة لن تعمل دون وحود سعر الفائدة، فالاقتصاد الرأسمالى منظومة مكتملة اما ان تأخذها (بضبانتها) او ترفضها كلية!
وعلى كل ما يحدث في ادارة الاقتصاد الكلى عندنا يعتبر واحدة من محن السودان – وما اكثرها- و لن تحل مشكلة الفوضى الاقتصادية الا بحل التناقض والتضارب في الرؤى واعادة ترتيب ادارة الاقتصاد برؤية محددة ومنضبطة يمكن قياس آلياتها اسلامية كانت ام رأسمالية! اما الفوضي الحالية فهي اكبر سبب لمقاطعة العالم لبلادنا.

سأعود لهذه النقطة ومناقشة تأثيرها على الطبقة الوسطي.

*هذه الارض لنا*
* نشر بصحيفة اصداء سودانية ٤ اغسطس ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة