بعد كل عدوان تصعّد به دولة الإمارات حربها ضد السودان، يتصاعد الجدل في الإعلام حول كيفية الردّ على العدوان الإماراتي اقتصاديًّا، وتتعالى الدعوات لوقف تصدير الذهب إلى الإمارات، وكأن هذا هو الإجراء الوحيد الممكن، أو كأنها الخطوة التي ستلحق ضررًا بالغًا بالإمارات فتوقف عدوانها. وهذا، في تقديري، تصوّر خاطئ وأوهام محضة، لا تعدو أن تكون وسيلة للتنفيس عن الغضب من عدوان الإمارات. وسأوضح لاحقًا خطل هذه الفكرة.
2
في البداية، أقول إن الذهب أصبح، في العقيدة الجيوسياسية الإماراتية، وسيلة لتمويل الحلفاء والميليشيات، وتثبيت النفوذ في مناطق النزاع، كما في ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى والسودان، وذلك أكثر من كونه مصدرًا للعوائد المادية.
تتعامل الإمارات الآن مع أكثر من 20 دولة أفريقية في مجال الذهب، وبإمكانها تعويض الفاقد من وارد الذهب السوداني. ورغم أن السودان يُعد من أكبر مورّدي الذهب الخام إلى الإمارات، فإن دولًا مثل غانا ومالي والكونغو تُسهم كذلك بنصيب وافر. كما أن دبي تستضيف عدة مصافٍ لتكرير الذهب، تُتهم بتبييض الذهب القادم من مناطق النزاعات، مما يجعلها جاذبة ونقطة مركزية في آلية تدوير الذهب غير الشرعي وتحويله إلى منتج “نظيف” قابل للتصدير إلى أوروبا وآسيا. وهذه ميزة تنافسية غير متوفرة في العالم.
3
إن التعامل مع مسألة تصدير الذهب كأداة للردّ على العدوان يجب أن يكون جزءًا من خطة أو استراتيجية شاملة، لا إجراءً منفردًا قادرًا وحده على ردع الإمارات أو حتى التخفيف من غلواء عدوانها، وذلك لسببين:
أولًا:
لن يتأثر اقتصاد الإمارات كثيرًا بوقف تصدير الذهب السوداني؛ فالناتج المحلي الإجمالي للإمارات بالأسعار الثابتة يبلغ نحو 457.38 مليار دولار، أي ما يعادل 11.9 ضعف الناتج المحلي الإجمالي للسودان المُقدَّر بنحو 38.4 مليار دولار (2024). أي أن إنتاج السودان الكلي، بذهبه، لا يمثل سوى 8.5% من حجم الاقتصاد الإماراتي. كما أن مساهمة تجارة الذهب (تكريرًا، بيعًا، تصديرًا، واستيرادًا) في الناتج المحلي الإجمالي الإماراتي لا تتجاوز 10% إلى 15%.
في المقابل، كان الناتج المحلي الإجمالي للسودان في عام 2017 نحو 117 مليار دولار، ثم تدهور في 2018 إلى نحو 42.7 مليار دولار، وانحدر إلى 30.9 مليار دولار، قبل أن يرتفع مجددًا إلى 51.66 مليار دولار في عام 2023، ليهبط مرة أخرى إلى 29.8 مليار دولار في 2024، بحسب تقارير البنك الدولي.
تشير التقديرات إلى أن مساهمة قطاع الذهب تصل إلى 44% من جملة الصادرات السودانية قبل الحرب، أما بعدها فقد ارتفعت مساهمة الذهب إلى 80%، ما يعني أنه أصبح المصدر الأساسي لتمويل المجهود الحربي في ظل غياب الدعم الدولي أو الإقليمي.
أما مساهمة الذهب في الناتج المحلي الإجمالي، فلا تتجاوز عادةً 10–15%، بحسب تقديرات ما قبل الحرب. وعليه، فإن أي خطوة تضر بقطاع الذهب، سواء عبر سياسات أو قرارات متهورة، تعرّض البلاد لمخاطر لا داعي لها في هذا التوقيت.
ثانيًا: في ما يتعلق بالذهب:
خلال الفترة من 2022 إلى 2024، صدرت ست تقارير دولية مهمة وموثوقة بشأن الذهب، والإمارات، والصراع في السودان، من جهات مثل: مجموعة الأزمات الدولية، سنتري، تشاتام هاوس، رويترز، المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة، ومنظمة الشفافية السودانية.
وقد قدمت هذه التقارير معلومات دقيقة ومكثفة عن تجارة الذهب في العالم، وموقع الإمارات فيها، واستغلالها للذهب الأفريقي الملطخ بدم الحروب، إضافة إلى توثيق علاقتها بالحرب في السودان، وسعيها المحموم للسيطرة على الذهب وتغذية الصراع بالسلاح.
4
تشير تلك التقارير إلى أنه في عام 2024 بلغت القيمة الإجمالية للذهب المُنتج عالميًّا حوالي 382 مليار دولار، وهي أعلى قيمة سنوية مسجّلة حتى الآن.
وفي ذات العام، بلغت واردات الإمارات من الذهب الخام وغير المصنّع (حسب المجموعة السلعية 7108) نحو 76 مليار دولار، بما يعادل 559 طنًا.
وتؤكد التقارير أن إجمالي قيمة تجارة الذهب (واردات + صادرات + تصنيع + إعادة تصدير) في الإمارات تجاوزت 129 مليار دولار عام 2023، ما يجعلها ثاني أكبر مركز عالمي بعد الهند، متفوقة على بريطانيا.
تمر عبر دبي سنويًّا 20% إلى 30% من إجمالي تجارة الذهب العالمية.
وفي عام 2024، استوردت الإمارات نحو 435 طنًا من الذهب الأفريقي، بقيمة تزيد عن 31 مليار دولار، منها 93% عبر التهريب ومن دون تصاريح رسمية.
5
وفي ما يخص السودان، تشير التقديرات الرسمية والمستقلة إلى أن إجمالي الذهب المتداول (رسمي ومهرّب) يتراوح بين 94 و114 طنًا سنويًّا، ما يجعل مساهمته في واردات الذهب الإماراتية تتراوح بين 17% إلى 20%. وتقدّر القيمة السوقية لهذا الذهب بنحو 5.64 إلى 6.84 مليار دولار، إلا أن العائد الرسمي الذي يصل فعليًا إلى السودان لا يتجاوز 1.57 مليار دولار، ما يعكس حجم الفاقد بسبب التهريب.
6 – الخلاصة:
السودان يصدّر إلى الإمارات ما بين 17% إلى 20% من إجمالي وارداتها من الذهب، بقيمة تتراوح بين 5.64 إلى 6.84 مليار دولار، ضمن تجارة ذهبية إماراتية تبلغ 129 مليار دولار، تمثل نحو 30% من تجارة الذهب العالمية.
لكن الذهب السوداني لا يمثل سوى 4.65% من إجمالي قيمة تجارة الذهب في الإمارات، ما يعني أن وقف تصديره وحده لن يكون كافيًا لردع الإمارات.
لذلك، يجب الحذر من اتخاذ قرارات متعجلة تحت ضغط الغضب الشعبي، قد تضر بالاقتصاد الوطني، خاصة في ظل غياب أسواق بديلة ميسّرة تسمح بتصدير الذهب الخام كما هو الحال في سوق دبي.
يمكن حاليًّا الاكتفاء بوقف تصدير الذهب الذي تملكه الحكومة إلى الإمارات، مع مكافحة التهريب بصرامة عبر سياسات فعّالة، وترك القطاع الخاص يتعامل مؤقتًا مع أسواق الذهب، ريثما يتم ترتيب الانسحاب التدريجي من سوق دبي وتوفير بدائل ذات مرونة مشابهة.
فما هي عناصر الردّ الاقتصادي الشامل التي نقترحها لمجابهة عدوان الإمارات؟
نفصّل ذلك، بإذن الله، في الحلقة القادمة.