في مقهى الرياضيين بقلب الوريفة كسلا، على تخوم توتيل والقاش، يزدان المكان بقدامى نجوم الزمن الجميل خالد الزومة، الضو قدم الخير، عبد الإله بشرى، حمد دفع الله، عبده الشيخ ووليد سليمان والخبير أيمن دامبا، والأستاذ الإعلامي الشامل والمعلق الرياضي المعروف يوسف محمد يوسف، وعدد كبير من أهل الشرق الذين يقدرون الكبار ويعرفون قيمتهم، كان هذا التجمع بمثابة منتدى يحرص الجميع على حضوره، يتحدث الناس فيه عن السياسة والرياضة والفن والأدب.
ذات مرة كان الحديث عن مصطفى سيد أحمد وعبقريته في الغناء، الكل أدلى بدلوه، والحق أنني كنت أكثر الحضور استمتاعًا، فالحديث عن مصطفى يشجيني ويطربني ويغسل عن دواخلي رهق الواقع الأسود وسخفه وبؤسه، ويحلق بي في عوالم من المتعة والجمال. وقد لفت انتباهي حديث أحدهم وهو يشير إلى العلاقة بين مصطفى سيد أحمد والفريق صلاح قوش، تلك العلاقة المستحيلة، فيقول إن صلاح كان يعشق أشعار حميد ولا تسمع في مسجل عربته إلا أشعار حميد وأغاني مصطفى، ومن عجب أنه يشرح لك القصيدة ومناسبتها، ويكون في قمة الاستمتاع عندما تتفاعل أو تجاذب معه أطراف الحديث عن الشاعر وقصائده.. الحديث بالنسبة لي كان يحمل كل الغرابة والإثارة، لذا كان تركيزي كبيرًا. سألت عن هذا الشخص الذي يتحدث حديث الواثق بما يقول ويصرح، فقالوا لي إنه ضابط برتبة عميد في الاستخبارات، وكان مقربًا للفريق صلاح قوش.
يا للهول صلاح قوش وحميد؟ صلاح قوش ومصطفى؟ هذا ما لا يمكن أن يستوعبه عقل.فكيف إذٱ تلاقى الخطان المتوازيان؟ قلت ربما تكون الجهوية هي ما أنتجت تلك العلاقة الغريبة النشاز، فحميد ينتمي لذات المنطقة التي ينتمي إليها قوش، ومصطفى ليس ببعيد عنهما، وإن كان مصطفى وحميد لا يؤمنان بالجهوية ولا التعنصر. قلت لسعادة الضابط ذلك فجاء رده بأن قوش يحفظ كل أشعار حميد، ويستمتع بأغاني مصطفى، لأن كليهما مبدع والرجل يعشق الإبداع والمبدعين، ولا يوجد شيء آخر. والغربب أن حميد ومصطفى يقفان موقف الخصم المعادي لقوش والفكر السياسي الذي يعد عرابه وأحد كهنته، ذلك الفكر المتطرف الذي قطع أوصال البلد، وانتج لنا الجنجويد والموت والخراب وأحال حياتنا إلى جحيم كان حميد ومصطفى يقاتلان بالقوة الناعمة، قوة الكلمة المموسقة التي ألهبت حماس السودانيين وفجرت براكين الغضب في نفوسهم ثورة، فكانت تلك القصائد المغناة شعارات تزين الشوارع في أيام عرسها الجميل، أيام المواكب والحراك الثوري والتلاحم العظيم الذي تصدى له قوش وجماعته ليغتالوا حلم الأمة في صناعة الواقع والمستقبل الذي يستحقه أهل السودان.
في كل يوم ازداد قناعة أن مشروع مصطفى لا يزال يحتاج منا إلى البحث، لا يزال يحتاج إلى التنقيب، لا يزال يحتاج إلى الكثير من الإضاءات. وتبقى الحقيقة أن الزمان الذي سيستمع فيه الناس إلى أغاني مصطفى لم يأت بعد تمامًا كما قال العملاق صلاح حاج سعيد. ولعل في أغاني مصطفى ما يشير إلى هذا “يا غنانا المشتهنو ياني موعود بزمانك”، فالزمان الآتي هو زمان مصطفى، ومصطفى يثبت في كل يوم أنه ليس فقط مجرد فنان، بل ملهم وقائد وشعاع نور وضوء في ظلام النفق.