*تأملات في تجليات السودانوية عند بروفسير عبد الله الطيب (٢-٢) ياسر عرمان*

ذكرت في الجزء الاول من هذا المقال انه يهدف ” للإسهام ولو قليلاً في ازالة الجفوة بين قوى التقدم والاستنارة ودعاة السودانوية وبين الأستاذ والعالم الجليل والمفكر الدكتور عبدالله الطيب وإسهاماته العظيمة في حقل اللغة وعلوم الدين والثقافة وانتباهاته الجادة والمؤثرة في قضايا ذات صلة بالتاريخ وعلم الاجتماع والآثار.” وهو كذلك لا يهدف
“لمحاكمة مسيرة البروفسير عبدالله الطيب الطويلة ومواقفه من بعض القضايا التي لا تجد الإجماع وادّت إلى نقد العديدين له وان اراد المقال ذلك لن يستطيع، وانما القصد منه ضرورة النظرة الجادة والرصينة في بحث موقفه من قضايا السودانوية.”

(١)
عُرف البروفسير عبدالله الطيب بتوجهات واهتمامات بعيدة الغور في اللغة والدين وارتبط اهتمامه بشخصيات فكرية وثقافية عُرفت بعقلها النقدي ومنها اهتمامه بالشاعر الكبير والمجدد توماس استيرنز إليوت ( T.S. Eliot) وهو شخصية رائدة في الشعر الحديث واللغة الإنجليزية وعرف بإسلوبه النقدي الجديد في الكتابة، كما أهتم البروفسير والعلامة عبدالله الطيب بابي العلاء المعري وبرسالة الغفران وجوهرها الفلسفي والأدبي من تسامح الهي وغفران والنقد الديني وحرية الفكر وأهمية العقل والتفكير، ولم يهتم مثلاً بابن تيمية وعظم من شأن المعري مع انه اتهم بالفسق والزندقة والفجور وتم تكفيره لتغريده خارج السرب، وكان عبد الله الطيب ذو معرفة واسعة بفترة ما قبل الإسلام أو ما يسمى بالشعر الجاهلي وما بعد ظهور الاسلام، وعمل على تقريب الإسلام للبيئة السودانية في شروحاته وكان امتدادًا حقيقياً للرايات المطرزة بالنذور وإسلام السودان الصوفي ذو الخصائص المتفردة، ودكتور عبد الله الطيب كان مجذوباً من عظام المجاذيب جذبه الإنسان السوداني واللغة الدارجة وجذبته أرض السودان ولم تعصف به رياح اوربا العاتية، ولم يتزلف لزعماء الطوائف ولم يوظف علوم الدين واللغة في الصعود لموجات الإسلام السياسي وظل انسان عادي متواضع وهو العلامة الكبير الذي امتلك بضاعة لو اراد بيعها في سوق الاسلام السياسي لأصبح إماماً لاولئك المترفين الكاذبين. لم يزيده العلم إلا تواضعاً وهو ككثيرين من من صعدوا لسطح الحياة من ريف السودان رغم المصاعب الكبيرة التي واجهته، لم ينقطع من جذوره الريفية وهو بحق منتج سوداني وعلماً من أعلام هذه البلاد.

(٢)
لم يهتم بروفسير عبدالله الطيب بالسياسة إلا بالقدر اليسير، وقد ذكرت زوجته غريزلدا ان لقائها الأول به في لندن قد شهد هجومه العنيف على الاستعمار مما جذبها اليه، وقد خضع بروفسير عبدالله الطيب للتنميط ووصمة انعدام الموقف السياسي والتصنيف بانه رجعي وتزامنت اهم سنوات صعوده مع الصعود الكبير للمد اليساري والإسلامي وانتعاش الحياة السياسية، وكان بين شقي الرحى ولم يسند ظهره على حائط سياسي وجماعة سياسية وشق عباب الحياة وخاض زخمها وحيداً وهو المنغمس في دنيا الأكاديميات، وفُصل من التدريس في جامعة الخرطوم في بدايات حكم مايو ١٩٦٩، عندها هاجر للعمل خارج السودان، ورب ضارة نافعة.
رغم تصنيفه إلى جانب اليمين والإسلاميين لكنه كان متميزاً وذو ملامح خاصة واهتمامات واسعة وعمل على تمييز موقفه في احداث كثيرة، فعند إعدام الاستاذ الشهيد محمود محمد طه كتب قصيدة مجد فيها الاستاذ محمود ورفض تكفيره، وموقفه هنا يعد هام لانه حجة في الدين والتاريخ الإسلامي، ورغم صراعاته مع اليسار ذكر في نفس القصيدة (ولا انسى الشفيع وصحبه) في تحية لشهداء الحزب الشيوعي في ١٩ يوليو ١٩٧١.
موقفه من الاستاذ محمود محمد طه وحديثه عنه قائلاً ( قد شجاني محمود مصابه محمود مارق قيل، وهو عندي شهيد) ( ولقد رام ان يجدد محمود فقد صار جرمه التجديد والذي قد قال فقد قيل من قبل وفي الكتب مثله موجود)
وهذا موقف فكري وسياسي ترجع جذوره لاهتمامات البروفسير عبدالله الطيب بأبي العلاء المعري ورسالة الغفران وتأييده لإعمال العقل ورفضه لموجة الإسلام السياسي التي راح ضحيتها الاستاذ محمود محمد طه شهيداً للفكر .

(٣)
بعد اتفاقية سلام نيفاشا كان مكتبي في البرلمان مجاوراً لمكتب الدكتور الحبر يوسف نور الدائم وكنت أحاوره باستمرار وهو إنسان عذب الحديث بغض النظر عن موقفه السياسي الذي كان مكان اختلاف بيننا وهو واحد من تلاميذ البروفسير عبدالله الطيب، لاحظ اهتمامي به وأسئلتي الكثيرة عنه وذكر لي مراراً بانه علامة نادر وانسان واسع المعرفة يستحق الاهتمام وكانت له حكاوي شيقة وعديدة عن أستاذه عبد الله الطيب ومنها بيت شعر بعد ان فشل البروفسير عبدالله الطيب في الفوز في انتخابات مدير جامعة الخرطوم وقد قال :
لقد حويت كل أصناف العلوم ولم أزل أسعى
وغيري قاعد أو مقعد.
لم يستطع تيار الاسلامي السياسي السوداني من إيقاع البروفسير عبدالله الطيب في حبائله فعلمه وارثه الصوفي كانا له بمنجاة عن حبائل الإسلاميين.
ان المد السياسي الكبير الذي شهدته الستينيات وابتعاد دكتور عبدالله الطيب عن العمل السياسي اخذ من رحيق صورته ومع ذلك وبعد انحسار سنوات هذا المد وصراعاته فان البروفسير عبدالله الطيب لايزال في مجاله عالماً ورمزاً مهماً ذو محامد لا تنقضي.

(٤)
في محاضرات ومجالس علمية عديدة كان عبدالله الطيب يحاول الربط بين السودان وبحوثه ويضع له دور ومكانة في دراساته وتنقيبه وله احاديث مشهورة عن هجرة الصحابة وعن الصحابي الجليل بلال ابن رباح وعن الاهرامات وعن الشعر الجاهلي وقبيلة الزغاوة وهو جزء من نزوعه السودانوي بغض النظر عمن يختلف ويتفق معه، وحديثه مبذول في الوسائط وقد كانت له مزاعم وفرضيات عديدة لم يطلقها على علاتها انما أرفقها بحفريات فكرية وثقافية وقدم مقاربات ذات اثر وبال لا تزال معلقة على شواهد العلم تنتظر مزيدا من البحث ومقاربات الاجيال الجديدة من العلماء. من حسن حظه ان نشاطه المعرفي الواسع وحضوره المستمر في الإذاعة والتلفزيون وكتابته ومباحثه المتنوعة احتفظت له بمكانة خاصة وذاع صيته مع انتشار الوسائط الحديثة ولله في خلقه شؤون.

(٥)
بعد المصادقة على درجة الدكتوراة من جامعة لندن عاد الدكتور عبد الله الطيب للخرطوم قبل ان يستلم شهادته، وجرت العادة ان يقبل من تمت المصادقة له على درجة الدكتوراة كأستاذ في جامعة الخرطوم ولكن المدير تحت الحكم البريطاني عرض عليه مساعد تدريس ولكنه رفض ذلك بكل كبرياء وإباء وذهب لبخت الرضا وساهم في المناهج وكان ذو نظرة ثاقبة في كثير من الامور المتعلقة بالمناهج والف بعض الكتب وله حديث طويل حول تجربته في بخت الرضا، ونحن مقبلين على بلاد دُمر تعليمها ما أحوجنا لتلك التجارب.

(٦)
حكى لي المبدع الكبير وأيقونة كل الازمنة محمد وردي ان البروفسير عبدالله الطيب سئل في لقاء إذاعي في الستينيات، هل يستمع للغناء، فاجاب بالإيجاب، وسئل عن رأيه في محمد وردي واجاب انه لم يسمع به، فسأل أحد الصحفيين وردي عن اجابة عبدالله الطيب فأجابه وردي: كيف يسمع بي وهو في العصر الجاهلي، وحينما بلغ ذلك عبدالله الطيب ارسل لوردي رسالة رقيقة مع بعض دواوين شعره وقال له المذيع الذي كان يسأل عن قضايا الدين عرج بي فجأةً للسؤال عن الغناء وقد اربكني ذلك واجبت دون قصد وانني لمن المحبين لغنائك، وأصبح صديقاً لوردي وعرف بأريحيّته وانفتاحه الاجتماعي.
وقد وجد تقديراً واسعاً من تلاميذه خارج السودان، وتقول احدى الحكايات ان طلابه في نيجيريا كانوا يتسابقون على حمل حقيبة كتبه تقديراً وعرفاناً واحتراماً وتبركاً، متى ما شاهدوه في بهو الجامعة، وذات مرة في المملكة العربية السعودية وهو يدخل بهو الفندق واذا بشخص يركض خلفه ويحمل عنه حقيبته ويعانقه وعرفه بنفسه انه السفير النيجيري في المملكة العربية السعودية وهو احد تلاميذه والخير خيرُ وان طال الزمان به.
ويقال حينما عينه جعفر نميري مديراً للجامعة ولم يستمع لنشرة الاخبار وحينما اخبره احد زملائه، قال ببديهة حاضرة والله جائتني متأخرة كخلافة علي.
يشدني الحنين لرحاب البروفسير عبدالله الطيب وعمق ارتباطه بهذه البلاد التي نحبها وتخصنا من نمولي الى حلفا ومن كرنوي والجنينة لكسلا وبورتسودان، شمالاً وجنوباً وغرباً ووسطاً في دولتي السودان. درجت على الكتابة والحديث عن عبدالله الطيب في وسائط التواصل الاجتماعي وعن رموز كثر من كل أنحاء السودان وتاريخه وكل ارجائه لنا وطن.
أهدي هذا المقال إلى روح كريزلدا عبدالله الطيب ولها مساهمات عديدة وقد انجذبت لسحر زوجها وسحر السودان وأضاءت رحلة إنسانية مجيدة وطلبت ان تدفن في السودان ويالها من رفقة وألفة إنسانية تليق بالكبار.
البروفسير عبدالله الطيب علامة وتربال من الريف، سوداني الهوى والهوية.

(٧)
قد نختلف حول رموزنا ونلجأ لقوقعة التحيزات الاثنية والجهوية العسيرة الهضم لان بنائنا الوطني غير مكتمل وينقصنا مشروع جامع للبناء الوطني حتى نجتمع ونتصالح مع تاريخنا وتنوعنا ولا مخرج لنا إلا بالذهاب لمرافئ سودان جديد.
لابد ان يعود السودان لعمق تاريخيه السودانوي الممتد لألاف السنين حتى يحافظ على جغرافيته ويجد مدخلاً ثقافياً شاملاً يربط التعدد والتنوع التاريخي والمعاصر حتى يتمكن السودان من تفسير ذاته في وحدة وتنوع وفسيفساء لا كانتونات منغلقة.

٩ يونيو ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة