*عبد الله علي إبراهيم يكتب : عن أسلمة الجيش في السودان تاني: تآمر أم ثقافة (2013)*

(هذا مقال أدعو فيه أيضاً لنظر أكثر تعقيداً لأسلمة الجيش من مجرد أنه “دسيسة” كيزان. ومطلب التعقيد في التحليل يتجه إلى أنه ليس بوسع جماعة أن تفرض فكراً ونهجاً لم يتهيأ الشرط لفرضه. ونظرت لاحقاً إلى مفهوم لعلم الدين والمجتمع جاء به عالم الاجتماع جورج سمل Georg Simmel)) فرق فيه بين “التدين” (religiousness) و”الدين” (religion). وسمل هو الذي قال عنه زميله ماكس فيبر بأنه صاحب أذن لموسيقي الدين. وقال سمل* في مفهومه بأن “التدين “حالة روحية وتعبدية تطرأ على الناس في شرط حياتهم ومنعطف منها. أما الدين فهو صيرورة التدين ثقافة لدولة مثل هؤلاء القوم. (أخذ حسن الترابي بالمصطلحين لغرضه). وقد يكتفي المتدينون بنازع التدين إلا إن لم يُشبع فلا يرى أهله بعده غضاضة إلى تديين الدولة بواسطة جماعة خرجت للغرض. ووجدت المفهوم مثيراً ومؤاتيا حللت به الصحوة، أو التجديد، الإسلامي (أو الهوس الديني إذا شئت) الذي أخذ بزمام (أو خناق إذا شئت) البلد منذ الستينات في كتابي “هذيان مانوي: القضائية الثنائية الاستعمارية وحركة التجديد الإسلامي في السودان، 1989-1985” الذي نشرته دار بريل (هولندا) في 2008 وصدر بعضه معرباً بتصرف في كتابي “الشريعة والحداثة”).

وددت لو تنبه أهل الرأي عندنا، في سياق الجدل عن مفهوم الانقلاب وثقافته، لكلمة للأستاذ على عثمان محمد طه في حوار له مع عصام محجوب الماحي في يناير 1989 (الخرطوم 12-8-2013). وجرت المقابلة وسط تكنهات قوية عن انقلاب عسكري وشيك. ووجدت فيها خاطرة ثقافية دقيقة حول إرهاصات انقلاب الإسلاميين لا تجدها عند عتاة أهل التحليل الاجتماعي ممن توقفوا عند القول بأن الانقلاب تدبير ليلي “كيزاني” متآمر شرير. وكلمة شيخ على مفيدة في استحالة الشر والتآمر (ونقول بذلك جدلا) إن لم تتوافر أشراطه.
أرجع الشيخ نجاحهم في الانقلاب إلى أسلمة للجيش حدثت له ولا يد لهم فيها. فقال إن نميري غيَّر العادات الاجتماعية بتجفيف البلد من الخمر. وصار نادي الضباط القديم بتاع الشربة طارداً لأهله. فتجنبوه. وحلّ مكانهم ضباط ملتزمون بالدين أعضاء الحركة الإسلامية بينهم فئة قليلة. وصار النادي ساحة لمناقشات الرواد الجدد في المعاش والمعاد. فتواشجت صلتهم وتواضعوا على قواسم سياسية مرجعها الدين. وقال شيخ على إنهم فوجئوا بذلك وسعدوا به لكسبهم لقوة حديثة غلبت عليها ثقافة “الميز” التقليدي. وبدأت الاتصالات المتبادلة. وكلما ألح عصام محجوب الماحي على عنصر “التجنيد” القاصد للحركة الإسلامية بين الضباط أعاده شيخ علي إلى تلك الحقيقة الاجتماعية والثقافية التي جاء لهم بها نميري على طبق من ذهب. وبالطبع لم ينكر أنهم كانوا يجندون في حدود استطاعتهم. وأصر على التمييز بين كسب تجنيدهم وكسب التغيير المجتمعي الذي ترسّم خطوطهم الدينية. ولم يعود المشروع الإسلامي بذلك حكراً لهم. بل كان من بين تلك الجماعة من أظهر تشدداً في تنفيذ المشروع لا يقل عما عند غلاتهم في الحركة الإسلامية نفسها. فمنهم من كان لا يقبل أدني تراجع ولو تكتيكي عن قوانين سبتمبر 1983.
وقعت لي كلمة شيخ علي على “جرح”. فكنت سألت قبل الانقلاب وبعده (القسم الثاني من كتابي “الإرهاق الخلاق”) أن نتفكر في أسلمة الجيش البادية. ونعيت على الشيوعيين أنهم توقفوا منذ انقلاب 19 يوليو عن التحليل الاجتماعي الثقافي للانقلاب الذي بادروا به بجدلهم الواسع حول هل 25 مايو 1969: ثورة أم انقلاب؟ وكان النقاش فيه جامعة مفتوحة لشباب مثلي مهموم بالوطن علماً بالمسألة وتدريباً على ضبط المصطلح. وصار الحديث عن الانقلاب عندنا الآن لا يتجاوز من البطل الذي قام به إذا كان من نفرك، أو من الشرير الذي ارتكبه إذا كان من خصومك. ودعوت إلى فتح باب الاجتهاد حول أسلمة القوات المسلحة. وذكرت تحديداً كلام أحد الضابط الذي قال لي قبل انقلاب 1989 إنه يستغرب للضباط يلبون نداء الآذان للجامع ليومهم أفواجاً بينما كان الميز محور حياتهم الاجتماعية. وقلت إننا نحتاج إلى فتح فكري بشأن أسلمة القوات المسلحة التي سبقت أسلمة الدولة. فأسلمة الجيش هي تعويض عن كساد الوطن. فالقوات المسلحة ملزمة بالدفاع عن بيضته في حرب أزلية تنصلت عنها عناصر الأمة الحية في الإعلام وحركة التغيير لتتحالف مع “عدو” محارب لها. ولما لم تعد الوطنية سبباً قوياً لفداء الوطن فليكن سببهم فداء العقيدة في شغف ديني روحي مثلج للروح والعقل.
إن كلمة شيخ علي باكورة في التحليل الاجتماعي الثقافي للانقلاب الذي تركنا سيرته طويلاً.
______
* عالم اجتماع الدين الألماني جورج سمل (1858-1918)

مقالات ذات صلة