إن اللحظات العظيمة في التاريخ تحدث غالبًا دون مقدمات أو ترتيب، لكنها تترك أثرًا عميقًا في وجدان الشعوب. ومن بين مثل هذه اللحظات، وخلال زيارته بالأمس إلى منطقة الدبة/العفاض بشمال البلاد لمعسكر ايواء النازحين والفارِّين من هول فظائع المليشيا المتمردة بالفاشر و انتهاكاتها، برزت صورة الفريق أول الركن عبدالفتاح البرهان وهو يحتضن بتحنانٍ و أسىً و مواساة إحدى نساء السودان البسيطات من النازحات. مشهد بسيط في مظهره، لكنه عظيم في مضمونه، حمل رسالة إنسانية ووطنية تتجاوز حدود الكاميرا والمكان. لم تكن تلك اللقطة عابرة، بل كانت رمزًا مكثفًا لمعنى القيادة المسؤولة، وجسرًا بين الجيش وشعبه في معركةٍ تتجاوز ميادين القتال إلى ميادين الوعي والكرامة.
وفي ذروة اشتعال الحرب وتعقّد معادلات السياسة والميدان، تبقى هذه الصورة أكثر بلاغةً من الخطب والبيانات، لأنها تختصر جوهر المعركة — معركة الكرامة — وتكشف عن العمق الأخلاقي والسياسي والرمزي للقيادة الوطنية في مواجهة مليشيا التمرد والارتزاق.
تلك الصورة، في ميزان المعركة، لا تقل تأثيرًا عن قصف المدفعية ولا عن انتصارات الميدان. إنها صورة بألف سلاح، لأنها تخترق القلوب قبل أن تخترق الصفوف، وتعيد تعريف القوة بمعناها الأسمى كقوة القيم والإنسانية والانتماء. وفي الوقت الذي تسعى فيه آلة الحرب الإعلامية لتزييف الوعي وتشويه الرموز، تأتي مثل هذه الصورة لتعيد التوازن وتذكّر الناس بأن الجيوش الحقيقية لا تُقاس بعدد وحجم العدة والعتاد، بل بعمق ارتباطها بالشعب الذي تحميه.
هي كذلك صورة بألف مقال، لأنها وثّقت وكتبت بصدق اللحظة ما تعجز عنه الأقلام والخطابات المدفوعة الأجر أو الموجّهة بالأجندات. فاحتضان البرهان لتلك المرأة السودانية البسيطة لم يكن فعلاً بروتوكوليًا ولا مشهدًا مُعدًّا للكاميرا، بل كان رسالة عميقة مفادها أن القيادة لا تفصلها الجدران ولا المواكب عن الناس، وأن من يقود المعركة من أجل الوطن لا يمكن أن يكون بعيدًا عن وجدان أهله وآلامهم.
في تلك اللقطة تماهى الزي العسكري مع الثوب السوداني مؤكدًا بيانًا بالعمل ومجسدًا الهتاف الأصيل «جيشٌ واحد، شعبٌ واحد»، حينها توحّد القلب القائد مع القلب المكلوم. لقد عبّرت الصورة عن التحام القيادة السياسية والعسكرية بقواعدها الشعبية، في مشهدٍ يختصر معاني الوحدة الوطنية في أبهى تجلياتها. لم يكن ذلك عناقًا بين شخصين فحسب، بل كان رباطًا موثقًا بين الدولة ومواطنيها، بين القيادة وجمهور الشعب الباحث عن الأمان بعد الفظائع التي ارتكبتها المليشيا المتمردة في دارفور وغيرها، إن اللقطة رسمت وبحيويةٍ تفاعليةٍ وبعفويةٍ صادقةٍ غير متكلفة ارتباط الحبل السري للراعي برعيته، يغذيها ويؤمنها في مخدعها أينما كانت.
هذه الصورة كشفت بوضوحٍ لا لبس فيه أن الشعب لا يزال يرى في جيشه حصنه وملاذه الأخير. فالهاربون من نار المليشيا المتمردة عديمة الاخلاق، منزوعة القيم والضمير؛ لم يلوذوا بالمنظمات الأجنبية، بل قصدوا معسكرات الجيش بحثًا عن الحماية والطمأنينة. إنها شهادة بالصورة على الثقة، تعلو فوق كل بيانات التضليل. وفي المقابل، انكشفت حقيقة المليشيا المتمردة التي هرب منها الناس فرارهم من الموت، لأنها فقدت كل معنى للإنسانية، وغرقت في جرائم السلب والنهب والاغتصاب والقتل على الهوية.
في الحروب الحديثة، لم تعد المعركة تُخاض فقط بالرصاص، بل بالكلمة والصورة والرأي العام. والصورة التي جمعت البرهان بتلك السيدة السودانية تدخل التاريخ السوداني كأحد أسلحة الوعي الوطني، لأنها حملت مضمونًا أقوى من أي خطاب إعلامي. إنها الصورة التي أعادت تعريف “الجيش” في أذهان الملايين بأنه مؤسسة من رحم الشعب، لا سلطة فوقه، ولا قوة خارجه. في المقابل، لقد عرّت الصورة المليشيا المتمردة وأظهرتها في حقيقتها كجسمٍ غريبٍ لا يجد بين الناس إلا الرفض والنفور.
على الصعيد الإعلامي الدولي، تمتلك هذه الصورة قدرةً استثنائية على إعادة صياغة الرواية حول ما يجري في السودان. فالإعلام العالمي، الذي ظل لوقتٍ طويل أسيرًا للسردية الموجّهة من غرف العلاقات العامة الداعمة للمليشيا المتمردة، يجد نفسه اليوم أمام مشهد لا يحتاج إلى تعليق أو ترجمة. صورة قائدٍ يحتضن امرأةً نزحت من تحت أقدام التمرد تختصر الحكاية كلها لتبيِّن من هو الحامي، ومن هو المعتدي، ومن أين ينبع الأمل. إنها لقطة قادرة على كسر احتكار الصورة الذي سعت إليه الآلة الإعلامية المعادية، وتفتح أمام السودان نافذة جديدة لتقديم نفسه إلى العالم كدولةٍ تقاتل من أجل كرامتها، وجيشٍ يذود عن شعبه لا عن سلطةٍ أو مصالح ضيقة. فحين تنتقل هذه الصورة عبر الشاشات ووسائل التواصل إلى العواصم البعيدة، فإنها لا تروي قصة البرهان وحده، بل تحكي قصة وطنٍ يحاول جاهدًا أن ينهض من تحت الركام محتفظًا بإنسانيته وشموخه.
تتعدد الفوارق بين الجيش الوطني والمليشيا العميلة كما تتعدد الفوارق بين النور والظلام. الجيش يسير بعقيدة تحكمها قيم الانضباط والواجب والوطن، بينما المليشيا تحكمها الغنيمة والولاء الأعمى للممول الأجنبي. حيثما مرّ الجيش ترك خلفه النظام والأمان، وحيثما حلّت المليشيا تبعتها الفوضى والانتهاك والفظائع. في الفاشر والجنينة ونيالا وزالنجي، تتكرر المأساة ذاتها من مجازر واغتصاب ونهب وحرق، كلما وطئت أقدامهم أرضًا. أما الجيش، فحيث يقف، يقف معه المواطن، مطمئنًا إلى أن بينه وبين القائد رابطة شرفٍ وواجبٍ وأمانةٍ لا تُشترى بالمال ولا تُؤجر للمرتزقة.
إن الصورة التي جمعت البرهان بتلك المرأة السودانية البسيطة ليست مجرد لقطة عاطفية؛ إنها وثيقة وطنية وإنسانية ستبقى شاهدة على روح السودان الحقيقية في معركة الكرامة. إنها تلخص معاني القيادة والشعب والجيش والإنسانية في مشهدٍ واحدٍ، وتؤكد أن الانتصار في هذه الحرب لن يُقاس بعدد المعارك التي كسبناها، بل بقدرتنا على الحفاظ على جوهرنا الأخلاقي والإنساني.
فمن رحم تلك الصورة ودفء ذلك العناق، تولد كل يوم معاني السودان الحقيقي و قيمه الحقّة، وطنٌ يقاتل ويحنو، وجيشٌ يحمي ولا يبطش، وقيادةٌ تسير بالناس وبينهم، لا فوقهم.
الاحد 9 نوفمبر 2025م




