تمهيد
يُشار إلى الملازم أول زين العابدين عبد التام في بعض أدبيات السودانية بأنه والد الدكتور عبد الوهاب (1919-1985)، مؤسس الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو)، التي شكلت نواة الحزب الشيوعي السوداني، وأول سكرتير للحزب الشيوعي السوداني (1946-1947)، فضلاً عن أنه كان عضواً في الهيئة الستينية لمؤتمر الخريجين في الدورتين التاسعة والعاشرة (1945-1946) وسكرتيراً للجنة التنفيذية. وفي فترة سكرتاريته للحزب الشيوعي، روَّج لفكرة اندماج الحزب في الحركة الاتحادية بدلاً من أن يكون حزباً مستقلاً بذاته؛ إلا أن هذه الفكرة قد أفرزت صراعاً على مستوى قيادة الحزب عام 1947، نتج عنه فصل عبد الوهاب زين العابدين ومجموعته من الحزب، وبعد ذلك انضم عبد الوهاب إلى الحزب الوطني الاتحادي. ولا جدال في أن هذه الأدوار السياسية المتعددة قد وضعت الدكتور عبد الوهاب في دائرة الضوء، وجعلت اسم الملازم زين العابدين عبد التام مقروناً باسمه، دون تفرد التراجم والأدبيات السودانية له حيزاً منفصلاً بين ثناياها؛ إلا أن هذا التغافل لم ينقص شيئاً من دوره البارز في احتجاجات 1924، التي سبقت وأعقبت اغتيال السير لي ستاك (1917-1924)، حاكم السودان الإنجليزي-المصري (1898-1956) في قاهرة المعز في 19 نوفمبر 1924.
(2)
الملازم زين العابدين عبد التام
وُلِدَ زين العابدين عبد التام من أبٍ دينكاوي وأمٍ محسيةٍ في مدينة حلفا القديمة بالولاية الشمالية، وبعد ميلاده بعدة سنوات انتقلت الأسرة إلى الخرطوم، حيث أكمل الزين تعليمه الأولى، والتحق بالمدرسة الحربية وتخرج منها عام 1916م، فالمدرسة الحربية قد أُسست عام 1905، وأُغلقت بعد المظاهرات التي أعقبت اغتيال السير لي ستاك في القاهرة. وبعد تخرجه عُين نائب مأمورٍ بمركز رشاد بمديرية جبال النوبة آنذاك، حيث اهتم بإحياء الشعائر الإسلامية وشيد مسجداً على نفقته الخاصة، حسب رواية محمد عبد الرحيم؛ إلا أن مثل هذه الأنشطة لم تكن من أولويات مهامه الوظيفية آنذاك، فنُقل إلى مركز هيبان بالمديرية نفسها. ويبدو أنه لم يكن راضياً عن ذلك النقل “التعسفي”، فتقدم بطلب للسلطات البريطانية للسماح له بقضاء إجازته السنوية بالقاهرة. وعندما وصل الخرطوم، اغتنمت جمعية اللواء الأبيض الفرصة، وكلَّفت عضو الجمعية محمد المهدي الخليفة عبد الله التعايشي أن يرافقه في الرحلة لتوصيل بعض العرائض المناهضة للوجود البريطاني في السودان إلى حكومة الوفد التي يترأسها سعد زغلول. بالفعل رافقه محمد المهدي متنكراً في الرحلة بالقطار؛ إلا أن السلطات الأمنية كشفت أمرهما في وادي حلفا، وألقت القبض عليهما، ثم أعادتهما إلى الخرطوم. ويرى أحمد إبراهيم دياب أن تركيبة الوفد الثنائية من زين العابدين عبد التام ومحمد المهدي، كانت تعكس طرفاً من رؤية جمعية اللواء الأبيض التي “لا تؤمن بالفوارق الاجتماعية، ولا بالعنصرية والقبلية، بل أنها حاربت العنصرية والقبلية والطائفية، التي ولدت وترعرعت في أحضان الإدارة البريطانية، وغذتها ورعتها السياسة الاستعمارية؛ لتكون سلاحاً تضرب به وحدة الشعب السوداني، وقتما تريد كما حاربت الجمعية القبلية في أبسط صورها، بل أن الجمعية كانت بوتقة انصهرت فيها كل الفوارق الاجتماعية؛ لتنصب في قالب الوحدة.” (أحمد إبراهيم دياب، 172).
وفي 17 يونيو 1924 ألقت السلطات الأمنية القبض على الملازم زين العابدين عبد التام مع أربعة أعضاء آخرين من جميعة اللواء الأبيض، بتهمة قيادتهم لمظاهرة في الخرطوم، لم تصادق عليها الجهات الرسمية. بيد أن هذا الاعتقال واجه احتجاجاً من عدد من الضباط وضباط الصف الذين أرسلوا برقية إلى الحكومة المصرية، جاء فيها: “باسم الضباط والموظفين والشعب السوداني نحتج بشدة ضد اعتقال المتظاهرين، الذين هتفوا بحياة مصر والسودان، وبعدما تم ضربهم بالسيوف، وسجن خمسة منهم. أننا نؤكد لكم أن كل السودانيين غير مسؤولين عن أي شيء ربما يحدث نتيجة لهذه السياسة.” (محمد عبد الرحيم، ص 62).
ونتيجة لهذه الاحتجاجات، أطلقت سلطات سجن الخرطوم بحري العمومي (سجن كوبر لاحقاً) سراح الملازم زين العابدين عبد التام، الذي وضع تحت الاعتقال العسكري-التحفظي بقشلاق الأورطة الحادية عشرة السودانية بأم درمان. وبعد انقضاء مدة الاعتقال التحفظي، نُقل الملازم زين العابدين إلى الأورطة الثالثة عشر السودانية بمدينة واو بمديرية بحر الغزال، وكان مثل هذا النقل إلى المديريات النائية يُصنف في خانة التنقلات التأديبية.
(3)
حامية واو والإعفاء عن الخدمة العسكرية
اشترك الملازم زين العابدين في الاحتجاجات التي انفجرت في الحامية العسكرية بواو بسبب استبدال قائد الحامية العلم المصري الأخضر بالعلم العثماني الأحمر، واعتبر الجنود المصريين وبعض زملائهم السودانيين أن الإجراء فيه إهانة لرمز السيادة المصرية. وظل الجو العام متوتراً داخل الحامية إلى أن وقع حادث اغتيال السير ستاك في القاهرة، وإصدار اللورد اللنبي، المندوب السامي البريطاني في القاهرة، إنذاراً إلى الحكومتين المصرية والسودانية، وطلب منهما تنفيذ القرارات الواردة فيه على جناح السرعة. ومن بين القرارات التي أصدرها اللنبي ترحيل الجنود والموظفين المصريين من السودان إلى مصر خلال أربعة وعشرين ساعة من تاريخ صدور الإنذار، وتشكيل قوة دفاع السودان تحت قيادة حاكم عام السودان الإنجليزي-المصري. وبعد تبليغ حامية واو بتنفيذ هذين القرارين، استفسر الملازم زين العابدين عبد التام من قائد الحامية، قائلاً: “هل الخدمة في قوة دفاع السودان بالأمر أم بالرغبة؟”، فرد القائد عليه قائلاً: “بالأمر”. (محمد عبد الرحيم، 64) وعند هذا المنعطف الخطير كتب الملازم زين العابدين عبد التام خطاباً إلى قائد الحامية، جاء فيه: “بناءً على تصريحكم لي ضمن الضباط اليوم، فأنني ليست لي الرغبة في الخدمة بجيش غير الجيش المصري، الذي حلفت يمين الطاعة والإخلاص للخدمة به، وقد أكون خائناً إذا أنا خالفت ذلك.” ونتيجة لهذا التحدي لأوامر السلطة الحاكم تمَّ إيقاف الملازم زين العابدين عن الخدمة، ووضع تحت الاعتقال العسكري، ثم رُحل إلى الخرطوم، بهدف ترحيله إلى القاهرة مع ثلاثة ضباط آخرين. وبعد وصول ثلاثتهم إلى وادي حلفا في طريقهم إلى مصر، صدرت تعليمات بإعادتهم إلى الخرطوم. فعندما علموا بهذا الخبر حاولوا الهروب إلى القاهرة؛ لكن الشرطة القت القبض عليهم، وأعادتهم إلى الخرطوم، فوضعوا في الحبس من 17 يناير إلى 17 مايو 1925، دون صرف رواتبهم الشهرية واستحقاقاتهم الأخرى. فطالب الملازم زين العابدين بحقوقه المالية؛ إلا أن السلطات ردت عليه بالخطاب الآتي: “أوعز إليَّ أن أخبركم بأن حضرة صاحب المعالي الحاكم العام [لا يستطيع] منحكم براءة رتبة في قوة دفاع السودان، وقد سبق أن [أعلمتم] بذلك، وبما أن الحكومة المصرية غير راغبة في استخدامك بالجيش المصري في القطر المصري، كما لا تسمح لك بالدخول إلى القطر المصري، فعليك بوصول هذا إليك أن تقدم طلباً بالطريقة المعتادة عن أي مكافأة أو معاش تكون مستحقاً له لغاية يوم 17 يناير سنة 1925، وحضرة صاحب السعادة نائب السردار سيرسل هذا الطلب إلى معالي وزير الحربية”، في القاهرة. (محمد عبد الرحيم، 73).
وبعد ذلك الحادث فُصِل زين العابدين عبد التام من الخدمة العسكرية، ولا تفيد المصادر التي اطلعتُ عليها عن الأنشطة السياسية والاجتماعية التي كان يمارسها بعد ذلك الفصل التعسفي. ولكن في نهاية عقد الأربعينيات أسهم زين العابدين عبد التام في تأسيس “جمعية الوحدة التعاونية السودانية”؛ لأسر الضباط المتعاقدين، الذين ترجع أصولهم إلى جنوب السودان وجبال النوبة، وأضحت هذا الجمعية تُعرف في الوسط السياسي بالكتلة السوداء. ومن أعضائها المؤسسة عثمان متولي (رئيساً)، وزين العابدين عبد التام (نائب للرئيس)، ومحمد آدم أدهم، ابن أخت زين العابدين عبد التام (مسؤولاً مالياً)، وعبد النبي عبد القدير (سكرتيراً)، وحسن مرجان (نائباً للسكرتير)، واشترك في اجتماع جمعيتها العمومية التأسيسي بأم درمان قرابة أربعة آلاف عضواً (كوريتا، ص 55). وكانت هذه الكتلة السوداء لها تقاطعات سياسية مع الحزبين الكبيرين (حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي)؛ لأنها كانت تؤيد قيام الجمعية التشريعية كخطوة في سبيل بناء المؤسسات الدستورية، وتساند قضية الوحدة مع مصر تعللاً بالروابط الثقافية والمصالح المشتركة بين القطرين. وفي انتخابات الجمعية التشريعية لعام 1948 فاز عضوا الكتلة السوداء زين العابدين عبد التام ومحمد آدم أدهم في دائرتين في أم درمان، وظلا معارضين لسياسة فصل الشمال عن الجنوب، ومؤيدين لوحدة السودان في ظل حقوق المواطنة المتساوية.
(4)
خاتمة
الهدف من هذا المقال إلقاء بعض الإضاءات على سيرة الملازم زين العابدين عبد التام، أحد الذين ساهموا في ثورة 1924، فكانوا من ضحاياها العسكريين، الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لالتزامهم بقسم الولاء إلى الملك أحمد فؤاد الأول، ورفضهم الانضمام إلى قوة دفاع السودان، التي أنشئت في يناير 1925. آمل أن تكتمل الصورة الذهنية لسيرة الملازم زين العابدين عبد التام بمدخلات القراء الكرام وتعليقاتهم، وذلك احتفاءً بمرور مائة عام على ثورة 1924 في السودان.
(5)
مراجع:
1) أحمد إبراهيم دياب، “دور الوحدات العسكرية السودانية في ثورة 1924″، المجلة التأريخية المصرية، مجلد 24، 1977، ص 169-192.
2) اللواء الأبيض، ثورة 1924: مذكرات ومشاهدات سجين، عبد الكريم السيد، الخرطوم: شعبة أبحاث السودان، يونيو 1970.
3) محمد عبد الرحيم، الصرح المسلح على الوحدة في السودان أو الحقيقة عن حوادث 1924، القاهرة: مطبعة كلوت بك، د.ت.
4) يوشيكو كوريتا، علي عبد الله اللطيف وثورة 1924: بحث في مصادر الثورة السودانية (ترجمة مجدي النعيم)، القاهرة: مركز الدراسات السودانية، 1997.