بعد فشل عروس الثورات السودانية كما كان يسميها الشريف حسين وهي حركة يوليو ١٩٧٦. شعر نظام النميري بهزيمة عميقة في جهاز أمنه، الذي فشل في كشف حركة مسلحة تتحرك في الخفاء من إثيوبيا وليبيا وتدخل بقواتها وعتادها حتي تصل العاصمة وتستولي علي الحكم من غير كشفها، تحرك النظام بعدها مذعوراً وقام بحملة إعتقالات ضخمة تم فيها إعتقال قيادات السياسيين من حزبي الاتحادي والأمة .
في شتاء بارد بلندن إستدعاني الشريف وأخطرني بأن أعِدّ نفسي للسفر للسودان لأمر سري هام وبأسرع ما يمكن، تحركت فوراً الي مكتب الهجرة لعمل تأشيرة العودة ولحسن الحظ وجدت حجز علي الخطوط البريطانية بعد يومين، عدت إليه ووضحت له الترتيبات التي تمت ومواعيد السفر، شرح لي سبب إختياري للمهمة، أبان لي ثقته وإطمئنانه من ناحيتي في كتمان سر المهمة، ومقدرتي في التحرك وحفظ المعلومات من غير تدوين بحكم السن. بما أن عطلة الكريسماس علي الأبواب إن الوقت مناسب لسفري من غير إثارة تساؤلات أو شبهات،
أوضح لي الشريف بأن كل قيادات الحزب بالخرطوم والأقاليم في المعتقلات ، المعتقلين في العاصمة أمورهم العائلية ومصاريفهم تم ترتيبها ولكن هنالك ضبابية حول عدد المعتقلين في الأقاليم وظروفهم الأسريه، شعرت بالآسي والحزن العميق في عينيه لحظتها ، المطلوب السفر للسودان وبدون ضوضاء والذهاب تحديداً الي الخط من الدمازين مرورا بسنجة وود مدني حتي ابو حراز والعودة فوراً للندن بعد إنجاز المهمة، في كل مدينة كلفني بمقابلة شخص معين، كان عليّ أن أحفظ أسمائهم وكلمة السر للتحدث معهم، ثم معرفة عدد المعتقلين في كل مدينة وظروفهم الأسرية وحالتهم المادية، وحذرني بشديد اللهجة من عدم كتابة اي معلومة تحت أي ظرف، ثم باغتني متسائلاً إن كان بإستطاعتي التنفيذ أو الإعتذار لأي سبب قد يفشل المهمة، شعرت بتحدي جسيم أمامي وبدون تفكير أكدت له بأنني سأسافر وأعود بإذن الله بالمطلوب.
أقلعت بنا الطائرة، زمن الرحلة إلى الخرطوم حوالي ستة ساعات، قضيتها في مراجعة حفظ الاسماء في كل المدن والشفرات، والتفكير في كيفية السفر الي تلك المدن التي لم أري فيها غير ودمدني، زرتها مرة واحدة في زواج يوسف بدر بالحي البريطاني، زالت مخاوفي و هواجسي حينما تأملت عظمة ومدي إنسانية هذا الرجل الشريف، الذي يشغل باله وإهتمامه رجالات حزبه وستر أسرهم رغم الظروف التي يمر بها.
وصلت الخرطوم ونزلت بفندق الاندلس بالسوق العربي،نزلت السوق وإشتريت جلابية وعراقي وطاقية للسفر بهم الي الأقاليم حتي لا الفت الانتباه بلبسي الفرنجي ، علمت بأن الخطوط السودانية لديها رحلة صباحية الي الدمازين حجزت وسافرت صباح اليوم التالي الي مدينة الدمازين ومن المفترض أن اركب منها إلي الروصيرص التي يفصل بينهم خزان الروصيرص ، وصلت مطار الدمازين ونزلت من الطائرة وأنا في السلم كانت المفاجأة التي لم تكن في حسباني، تفاجأت بأن ضابط المديرية الذي كان في إستقبال الطائرة هو
زوج خالتي نعمات، السيد إسماعيل الحنفي، لا مجال للهروب أو التخفي فكنا متواجهين وجهاً لوجه،
ذهلت وإرتبكت فكان آخر لقاء بيننا بالقاهرة قبل عام حين كان مبتعثاً لدراسات عليا، متي عاد وجاء الي الدمازين ؟؟ لا أدري..
إستقبلني ببشر وترحاب ودهشة وسألني لماذا لم أخطره بأنني قادم، ومتي حضرت من لندن ، وأستفسرني عن سبب حضوري، أجبته بسرعة بديهة، الهمني بها المولي عز وجل لحظتها، بأنها سفرة تجارية عاجلة الغرض منها التعاقد مع تجار الموز للتصدير الي إنجلترا، حيث ينقطع الموز اللاتيني من الاسواق في الشتاء ، بشرني بأنه علاقته ممتازة مع أكبر تاجر في سوق الموز وسيذهب معي اليه، إصطحبني معه الي المنزل ودخل الي الخالة وأخبرها بأنه لديه مفاجأة سارة،
“معاي أحمد ولد أختك دارالسلام ،” إستغربت وفرحت بحضوري ، أثناء الغذاء إبتدأ يتحدث عن صديقه تاجر الموز، إن لم تخني الذاكرة أعتقد كان إسمه “ود تور شين” وإنه شخص واصل وله علاقات واسعة وهو مسؤول الاتحاد الاشتراكي في الروصيرص،
لا حولاااا ،
الاتحاد الاشتراكي شخصياً،
هل لي من حلل؟
أخبرته بأن زميلي وشريكي صاحب فكرة تجارة الموز لديه قريبه في الدمازين أسمه “كروم” وأوصاني بالإتصال به لتسهيل مهمتي، إرتحت لما أكد لي بمعرفته “بكروم” واثني عليه وقال لي بعد العصر ممكن نمشي عليه، فعلاً ذهبنا إليه وعرفني به وأوصاه عليّ بشدة، كان آذان المغرب قد أذن فطلبت من “كروم” بأنني أود الذهاب للحمام للوضوء، قادني الي الحمام و في الطريق ذكرت له كلمة السر واخبرته بأنني قادم من الشريف حسين وإن الضابط إسماعيل قريبي وزوج خالتي ولدي حديث مهم من الشريف معك، بعد صلاة المغرب وشرب الشاي أصر كروم علي إسماعيل بأن يتركني للمبيت معه للذهاب الصباح باكراً الي السوق والتفاوض علي اسعار الموز.
حطم قلبي “كروم” بوصفه للتعذيب والقسوة التي يواجهها المعتقلين الاتحاديين ومحاولات نزع إعترافات منهم، حصر عددهم لي وطمأنني بأن كل أمورهم الأسرية مقضي أمرها تماماً وكلفني بإخطار الشريف بأن الذعر الذي يتعامل به النظام كرد فعل للأمر يدل علي هشاشته وعدم تماسكه، وطلب مني التأكيد له بأنهم قادرين علي الصمود والتكفل بأمر المعتقلين وأسرهم تماماً ولا يحتاجون الي أي دعم وكل المطلوب التركيز علي سبل إسقاط النظام، ركبت بص متجها الي سنجة، دخلني شك كبير بأن أحد الركاب كان يراقبني، شككت في نظراته ومتابعته لي، إزداد الشك لما رأيته في الموقف بسنجة يتحدث الي شخصين أحدهم يلبس لبسة سفاري ظهر لي طرف المسدس تحتها، قررت المواصلة الي مدني فوراً ، فعلاً واصلت ووصلت مدني، سألت حتي وصلت منزل عمر محمد عبد الله في حي “العشير” وكان خارجاً من المعتقل قريباً، ذكرت له كلمة السر وأخبرته بأني قادم من الشريف حسين وعرفته بنفسي وأسرتي، شعرت بالارتياح في ملامحه لما عرف نوع المهمة ومدي إهتمام الشريف بأحوالهم، حكي لي عن كثير من التفاصيل التي طلب مني توصيلها للشريف،وقال لي قول للشريف “العيار اللي مايصبش يدوش” وإنه النظام في حالة إرتباك كبيرة، اما موضوع احوال أسر المعتقلين من الأفضل نذهب الي محمد عبدالله موسى، صديق عمره وزميل الكفاح، ذهبنا إليه وشرح لي تفاصيل أحوال المعتقلين وأسرهم وذكر لي بأن حتي من تخاذل وأعترف للامن ببعض المعلومات هم يقومون بالواجب تجاه أسرهم، توجهت الي ابو حراز وزرت الاضرحة المتعددة وأنجزت مهمتي وعدت الي الخرطوم، قابلت الجد احمد خير بمنزله بالخرطوم (٢) وكنت أحمل له بعض الوصايا ، قال لي قول لي حسين” أن الأمر عند الله من قبل ومن بعد، كن فيكون، قمتم بعمل كبير وضخم، فلا تحزن ولا تيأس “.
لم أمر علي منزلي ولا أهلي بالسودان وعدت الي لندن فوراً.
قابلت الشريف وأعطيته إحصاء بالمعتقلين وعن أحوالهم وأسرهم لخصت له الأمر بأن خلفك رجال يسدون عين الشمس، يقومون بالواجب وأزيد، فلا مال يبتغون ولا دعم، كل المطلوب الصمود والمواصلة..
إنهم يستمدون قوتهم ومواقفهم وتستند ظهورهم علي قيادتك وصمودك ودفاعك عن مبادئ الحزب الذي وصفته يوماً:
“إن حزبنا هو الوطن مصغراً، والوطن هو حزبنا مكبراً”
لي مع الشريف حسين مجموعة من المواقف لا تنسي..
وتلك رواية رمضانية أخري
احمد يوسف حمد