غياب حكومة السودان عن جنيف: من له حكومة لا يتشرد في الآفاق
عبد الله علي إبراهيم (1-2)
ملخص
لمح المبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرييلو إلى أن الفلول هم من وراء امتناع القوات المسلحة عن الوفود إلى جنيف. وهذا منزلق إلى سوء ظن بالجيش من جهة، ونسبة أمور إلى الفلول تعطيهم قدراً فوق قدرهم من جهة أخرى.
امتنعت القوات المسلحة عن تلبية الدعوة إلى حضور مؤتمر جنيف الذي عقد الأربعاء الماضي والذي رتبت له الولايات المتحدة والسعودية. وكانت أهداف المؤتمر جمعها بـ”الدعم السريع” لتفاوض يوقف العنف بصورة كلية لتبلغ المساعدات الإنسانية للمتضررين بتسهيل دخول الغوث لها، وقيام آلية للتحقق من تنفيذ أي اتفاق يعقد. وبعد رفض القوات المسلحة المثول في جنيف اختصر المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان توم بيرييلو موضوع المؤتمر في بدء عملية وقف العدائيات، لا بدء محادثات وقف النار نفسها بتركيز على الحوارات التي ستعقد بين الدول والمنظمات الدولية التي تسعى إلى أن تأتي بالطرفين للتفاوض.
تقدمت القوات المسلحة بشروط أرادت التوافق عليها قبل حضورها مفاوضات جنيف. فأرادت أن يكون ما اتفق عليه مؤتمر جدة في مايو 2023 لوقف العدائيات والغوث الإنساني أساساً للمحادثات في جنيف، بل لم تستحسن نقل طاولة المفاوضات من جدة إلى جنيف. كذلك أصرت على أن يكون وفدها للمفاوضات ممثلاً للحكومة السودانية لا القوات المسلحة وحدها.
ورأى كثير من الناس في تمنع الجيش دون المفاوضات جرجرة للأقدام من دون إيقاف الحرب بتلميح غير خافٍ بخضوعه للفلول، أنصار نظام الإنقاذ، في هذا الموقف. ورأوا في غيابه إهداراً لفرصة سنحت كان عليه اغتنامها، فترفع مخرجاتها أهوال الحرب عن السودانيين.
مؤكد أن جنيف كانت فرصة منتظرة لرفع المعاناة عن السودانيين إلا أنه بإمكاننا القول إن الصحف لم تطو ولم تكسر الأقلام مع ذلط . فما قبل انعقاد التفاوض، مما طلبته القوات المسلحة، سياسة في قوة ما يجري خلالها وما بعدها. وكان حكيم سوداني يقول هناك كلام في حوش المحكمة وكلام آخر أمام القاضي. فكلام خارج المحكمة هو الذي يفضي إلى نتيجة أفضل في المحكمة.
تثير اعتراضات القوات المسلحة على الإجراءات السابقة لانعقاد التفاوض قضايا صح اعتبارها لا لكسب الجيش فحسب، بل أيضاً لكسب وقف للحرب مؤكد وحاسم.
يستغرب المرء لعدم توفيق بيرييلو في استصحاب الجيش إلى المفاوضات بينما صدرت عنه في الماضي نظرات استحقت الموالاة لينفذ بشيء من الشك بالأطروحة الأميركية من أن الحرب في السودان هي صراع مأسوي بين جنرالين من أجل الحكم. فذكر مرة أن الجيش مؤسسة تاريخية وعتيقة، ونقول مروراً أنها احتفلت بعيدها الـ70 الأربعاء الماضي. لو توقف بيرييلو شيئاً قليلاً عند تقريره لقِدم الجيش هذا لأدرك أن الجنرال البرهان مسبوق إلى قيادته للجيش بـ70 سنة من القادة، بينما ليس بوسعنا قول الأمر نفسه عن الجنرال “حميدتي” الذي هو قائد “الدعم السريع” الأول وربما الأخير.
والعراقة أعراف، فكتب الروائي من جنوب أفريقيا جي أم كويتزي، قائلاً إن المهنية وحدها التي تحول دون قوى الأمن في جنوب أفريقيا وإبادة “الرفاق”، شباب أحياء السود الثائرين، عن بكرة أبيهم. وجاء عن بيرييلو أيضاً في لقاء له مع صحافيين في فبراير 2024 ما ودّ المرء لو استصحبه في ترتيبات مؤتمر جنيف. وبدا منه وكأن رفض الجيش حضور المؤتمر حزّ في نفسه فقرر، كما لا ينبغي لساعٍ في وساطة مضرجة مثله، أن الاجتماع سيعقد بمن حضر. وكان قال للصحافيين قبل ستة أشهر إن سير المعارك على الأرض لا يسمح للجيش بأن يذهب إلى المفاوضات ملمحاً إلى أهمية تحقيق الجيش نصراً على الأرض. وقال “يحتاج الجيش إلى أن يجلس إلى الطاولة مرفوع الرأس بعد تعديل الوضع في الميدان”.
وأضاف شوقي عبدالعظيم الذي نقل فحوى اللقاء الصحافي أن وضع الجيش السوداني تضعضع أكثر مما كان عليه منذ ذلك اللقاء الذي جرى في فبراير 2024، واستولت قوات “الدعم السريع” على ولايات جديدة وأبقت حاميات عسكرية تحت الحصار الشديد. ويود المرء لو أن بيرييلو اعتبر في تدابيره لجنيف قولته الناضجة تلك عن الجيش وحفظ له رفعة الرأس فيها. ويتمنى المرء أن لو كانت محادثة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع البرهان الأربعاء الماضي قد أماطت الأذى عن طريق الجيش ليشارك في مؤتمر جنيف.
لا يفهم المرء لماذا تعسرت الاستجابة لطلب القوات المسلحة أن تكون الحكومة السودانية هي من يمثلها في جنيف. فما الحكمة في إلغاء الحكومة، عنوان الدولة، في السودان من قبل قوى دولية حارت دليلاً حيال ظاهرة الدولة الفاشلة والمنهارة.
ويسأل المرء أليس الحفاظ على ما تبقى من دولة السودان حتى استكمالها بوقف الحرب خطة للمدى الطويل لا ينبغي أن تغطي عليها الاعتبارات السياسية ليومنا كما سنرى. وعليه فليس مطلب القوات المسلحة بالاعتراف بأنه حكومة أيضاً بـ”الغبي” كما ذهبت إلى ذلك الصحافية رشا عوض. فلم ترَ في المطلب سوى مؤامرة من الفلول “على المفاوضات تحت لافتة وفد الحكومة على رغم عدم وجود حكومة منذ الـ25 من أكتوبر (2021)، بل يوجد وزراء مكلفون وخلايا كيزانية”.
من الصعب على الزاعم غياب الحكومة عن السودان ليومنا قبول حقيقة أنه اتفق، أراد أو لم يرد، مع “الدعم السريع” الذي قال إنه خرج لإسقاط حكومة دولة 1956 كما تتجسد في دولة الفريق ركن عبدالفتاح البرهان. بل سبق هذا الزاعم، طالما ألغى الحكومة، بعقد النصر عليها لـ”الدعم السريع” بينما لا يزال هو بحاجة إلى وقت إضافي ليقضي عليها برمتها. ناهيك عن تعزيز من رمى بالحكومة في سلة المهملات لموقف “الدعم السريع” في هذه المسألة والذي جاء على لسان مستشار لها في الـ30 من يوليوالماضي. فقال المستشار إنهم سيتفاوضون مع الجيش ولن يسمحوا لأي كيان سوداني آخر مثل وزارة الخارجية بالدخول في هذه المفاوضات، أو مساعي وقف الحرب.
واتفق المستشار مع رشا عوض بأنه لم تعُد في السودان حكومة منذ انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021. ورأي “الدعم” هذا في الحكومة قديم وغير مستغرب ممن خرج لإسقاطها بالطبع. بل نجحت “الدعم” في مفاوضات جدة الثانية في إبعاد السفير عمر صديق من جلسات التفاوض بزعم أنه من حكومة في السودان بينما جاؤوا هم للتفاوض مع الجيش. وها هو مستشار “الدعم السريع” يعيد القول الآن عن رفضهم تطفل وزارة الخارجية على المفاوضات.
والاستغناء عن الحكومة مهما بلغت من السوء “مي بشارة” كما يقول السودانيون عن النبأ التعيس. وغني عن القول إنه حيث وجدت الحكومة في السودان في يومنا قامت بفروضها بقدر مستطاعها. ففوّجت حتى حجاج بيت الله هذا العام ناهيك عن خدمة التعليم والصحة والميناء والجوازات والعلاقات الدبلوماسية. فضيق موارد منظمتها للعون الإنساني في أماكن سيطرتها لم يسقط عنها واجب استقبال سيول البشر الفارين من وجه “الدعم السريع”.
ويتمتع المواطنون في “حكومة الأمر الواقع” كما يسمونها بالأمن بالقدر المتاح في بيئة حرب ضروس بما لا ينطبق على المناطق التي تسيطر عليها “الدعم السريع”. فمحمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات “الدعم السريع”، نفسه من نعى انفلات الأمن فيها في خطابه للسودانيين حول قبول قواته المثول في مفاوضات جنيف. فقال إنه ظل يحارب على جبهتين هما القوات المسلحة والمتفلتون الذين روعوا الناس. وقال إنه بينما انتصر على الفلول، القوات المسلحة، إلا أن المتفلتين “أرهقونا في معارك ما زلنا نخوضها بعزم وجدية”. وعليه قرر إنشاء قوة خاصة في مواقع سيطرته لحماية المدنيين توفر الأمان الشامل للناس وعودتهم لمنازلهم مكرمين. وهذه مرته الثانية يعلن الناس عن قيام آلية ترد عن المدنيين من سماهم “المتفلتين”. والتفلت هو أعلى مراحل تلاشي الدولة.
ونواصل
جواز سفري من حكومة الأمر الواقع ببورتسودان. طلب أول في أبريل 2023 أفسدته الحرب. وطلب آخر بعد فتح السفارة باب التقديم لتجديد الجواز في ابريل الماضي. وجاءني قبل يومين له شميم عرار نجد وأركويت.