*دموع الشانزيليزية* على عسكوري ٤ يناير ٢٠٢٥*

يحرص زوار مدينة باريس على زيارة شارع الشانزيليزية اشهر شوارع الارض للتسوق في متاجره الفاخرة وتلمس شيئا من عبق تاريخ الانتصارات والهزائم والثورة الفرنسية الخ… ذلك التاريخ الدموي الذى شكل تاريخ المدينة الاثمة، التى تسمي في تجاهل للتاريخ “بمدينة النور”.

نعلم ان باريس – احد اشهر عواصم العالم- بنت ثرائها وترفها من دماء وعظام ودموع ومآسي الشعوب التى استعمرها الفرنسيون لعقود طويلة.
رغم ان الثورة الفرنسية الغت الرق، الا ان نابليون بونابرت في احلامه الامبراطورية ارسل جيشا عرمرم بقيادة الضابط تشارلس ليكرك – زوج شقيقته الصغري الجميلة باولين بونابرت – الى جزيرة سانت دومينجو (هايتي حاليا) في عام ١٨٠١ لاعادة استعمارها والحاقها مرة اخري بالامبراطورية بعد ان ثار سكانها الافارقة وهزموا الفرنسيين وا نهوا الاسترقاق واعلنوا استقلال جزيرتهم. رغم ان حملة الاخضاع التى قادها تشارلس اتبعت سياسة الابادة مع السكان الافارقة فقتلت الالاف منهم، الا ان الافارقة انتصروا علية في نهاية الامر وقتلوه، عندها قصت باولين شعرها الاشقر الجميل ووضعته في التابوت ليدفن معه حزنا عليه. لاحقا نقلت رفات زوجها ومالك قلبها لتدفن في فرنسا. لكن بعد كل ذلك الحب المعلن- و كعادة النساء- ما كادت باولين تطأ ارض فرنسا حتى تزوجت “كامليو دوقيز” الامير السادس لمنطقة “سلومونا/ ايطاليا)، الذى هرب بدوره وتركها وحيدة في فرنسا لتواجه مصيرها بعد هزيمة نابليون في معركة “ووترلو” 1815!

بمقتل تشارلس وحزن باولين اندحر الاستعمار الفرنسي من هايتي التى نالت استقلالها العام ١٨٠٤م.
كان ذلك درسا مؤلما للامبراطورية الفرنسية، لكنها لم تع الدرس وعادت لتكرر مجازرها بعد ربع قرن في الجزائر العام ١٨٣٠، وتوسعت ليشمل استعمارها اغلب دول غرب افريقيا ومناطق اخري من القارة(٢٠ دولة) حيث سعت بالقوة القاهرة ل(فرنستها) فيما عرف في التاريخ بعملية الدمج assimilation (اى تحويل الافارقة الى فرنسيين ثقافيا)!
وقعت مجتمعات شمال غرب افريقيا وغربها ضحية لبشاعة الاستعمار الفرنسي ووحشيته. فقبل الاستعمار المباشر انغمس الفرنسيون في تجارة الرق من غرب افريقيا الى الاراضي الجديدة وتاجروا في ملايين الافارقة دون رحمة. ثم بعد ان نجحت الحملات المطالبة بوقف تجارة الرق لبشاعتها وانحطاطها ومنافاتها لادمية البشر، جاؤوا بجيوشهم الجرارة لاستعمار ذات الشعوب واخضاعها وفرنستها ونهب مواردها.

منذ حوالى العام ١٨٩٥ احتلت فرنسا غالب شعوب غرب افريقيا وانهمكت في اضطهادها ونهبها بلا هوادة… وللاسف ما يزال النهب مستمرا…!
على دماء الافارقة واشلائهم و نهب تلك الموارد المنهوبة اذدهرت باريس (مدينة النور) وانتعش شارع الشانزيليزية وفاض بمحلات العطور الراقية وافخر بيوتات الموضة والترف الرأسمالي.

وكما يذكرنا التاريخ دوما – لكل بداية نهاية- في العام الماضي نهض الافارقة في صراعهم المستمر لحريتهم في محاولة جديدة مستميتة لطرد الاستعمار الفرنسي من بلادهم باخراج الجيش الفرنسي الذى كان يذكرهم صباح مساء بالتاريخ الدموى لفرنسا ضد اسلافهم.

حاليا يشهد العالم اخر محاولات الافارقة لتحرير بلادهم وواضح انهم نجحوا هذه المرة.
شهد العام ٢٠٢٤ طرد قوات الاستعمار الفرنسي من السنغال وساحل العاج (سيكتمل بنهاية العام في الدولتين)، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، مالى، وتبقي لفرنسا فقط وجود محدود في دولة الغابون وقاعدة في “دجيبوتي”.
وهكذا نشاهد حاليا نهاية واحدة من اظلم حقب التاريخ استمرت حوالى ١٣٠ عاما، قتل فيها الفرنسيون ملايين الافارقة ونهبوا خيرات الشعوب وبنوا (عاصمة النور) وازدهر الشانزيليزيه بكل ترفه وبهائه.
هل انتهى الاستعمار الفرنسي لتلك الشعوب كلية؟ للاسف.. لا ! فما تزال فرنسا تسيطر على اقتصاد تلك الدول بصورة شبه تامة.

ما يزال يتوجب على تلك الدول حسب ما فرض عليها اتفاق ظالم عام ١٩٤٥، ان تودع ٥٠% من عائداتها بالعملات الصعبة في البنك المركزى الفرنسي، يضاف لذلك ايداع ٢٠% اخري من عائدتها لمقابلة التزاماتها القائمة. هذا يعنى ان تلك الدول تحصل على ٣٠% من عائداتها بالعملات الصعبة، وهو ما اضر ضررا بليغا بحقها في تنمية شعوبها، وعطل نهضتها لحوالى ثمانية عقود.
ان التخلص من ذلك الاتفاق (اتفاق عملة ال CFA) هو المعركة القادمة وهى معركة اصعب من طرد الجيش، فبدون سيطرة تلك الدول على فوائضها وادارتها يصبح الحديث عن الاستقلال ضرب من الهذيان!
كان اكبر المعضلات التى واجهها الفرنسيون في مجتماعات غرب افريقيا هى فشل محاولتهم القسرية لاخراج المسلمين عن دينهم وفرنستهم. ورغم القهر والاضطهاد الذى واجهه المسلمون على ايديهم تمسك المسلمون بدينهم واعتصموا به (السنغال مثالا). ما يؤسف له هو ضعف التوثيق من قبل مسلمى المشرق وشمال افريقيا لنضالات المسلمين في غرب افريقيا ضد الفرنسيين، ولا يكاد الباحث يعثر على كتاب او توثيق ذى قيمة تاريخية لنضالات تلك الشعوب ومكابدتها تحت نير الفرنسيين. لكن جهلنا بذلك التاريخ لا يقلل منه على الاطلاق. لقد ناضلت شعوب غرب افريقيا اضعافا مضاعفة مقارنة بالشعوب الاخري تمسكا بعقيدتها ودفاعا عن حريتها. فقد تواصل نضالها من القرن الخامس عشر ضد تجارة الرق واستمر ضد الاستعمار المباشر وتبقت له عقبة اخيرها لانهاء السيطرة الاقتصادية على مواردهم. متى ما تحقق ذلك، سنرى دموع الشانزيليزية على خد (مدينة النور)!

من عبر التاريخ ان الحضارات تنهض وتبيد وتحل محلها اخرها. تنطبق سنن التاريخ وارادة الخالق على الحضارة الغربية كسابقاتها لقد ارتكب ما يسمى بالحضارة الغربية جرائم غير مسبوقة في تاريخ الانسانية ولا تكاد بقعة في الارض تخلو من الدماء التى اراقتها وضحاياها من حروبها في شعوب العالم تجاوزوا مئات الملايين.
والآن دخلت الحضارة الغربية منذ اكثر من خمسة عقود في منحدر الانحطاط الاخلاقي وتآكلت عندها القيم الضابطة للسلوك الانسانى وفقدت بوصلتها الاخلاقية. وكما دخلت من غرب افريقيا لتجارة الرق هاهى تخرج منه منكسرة تلملم بقايا جنودها المندحرين.
بعد قرن ونيف ستغرق دموع الشانزيليزيه شوارع المدينة الاثمة، وسيؤول الشارع والمدينة الآثمة لامم اخري طال اضطهادها.
ينسب لى “لوكس نوتار” نائب حاكم القسطنطينية قوله:” اننى افضل ان ارى عمائم الاتراك في القسطنطينية على ان اري قلنسوات رجال الدين اللاتينين”.
ان من يقراء تاريخ اوروبا سيعلم ان عمائم المسلمين قادمة لتمسح دموع الشانزيليزية ليتوضأ فيه الناس بدلا من شراب الجعة! وما نشاهده الان في غرب افريقيا هو لصفحات مظلمة من تاريخ دموى آن له ان يذهب!

*هذه الارض لنا*

*نشر بصحيفة اصداء سودانية بتاريخ ٥ يناير ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة