*ضياء الدين بلال يكتب نوفمبر 1999: محطة مفصلية في مسيرتي الصحفية*

دخولي إلى مدرسة الرأي العام كان مزيجًا من الفرح والقلق.

فرحٌ لأنني انضممت إلى مؤسسة صحفية عريقة، تتصدر المشهد في كل شيء؛ فهي الأعلى توزيعًا، والأكثر جذبًا للإعلانات، والأفضل من حيث بيئة العمل وحقوق الصحفيين.

لكن القلق كان يساورني، فأنا على وشك الالتحاق بصحيفة تحتضن نخبةً من أمهر الصحفيين، حيث لا مكان إلا للأقوياء، وعليك أن تثبت جدارتك وسط كوكبة من الكفاءات الفريدة والنجوم اللامعة في مجال التحرير الصحفي وكتابة المقالات.

في تلك اللحظات، فاجأني أستاذنا محجوب عروة، بحضور البروفيسور عبد اللطيف البوني، حينما عرض عليّ ضعف ما كنت أتقاضاه في صحيفة البيان!
صمتُّ ولم أعقّب.

لقاء إدريس حسن: الصدمة الأولى

في أول لقاء لي مع رئيس التحرير إدريس حسن، دخلت مكتبه بثقةٍ وقلت:
“داير أكتب تحليل سياسي في الصفحة الأولى!”

ارتسمت على وجهه الصارم ابتسامة ساخرة، ثم انفجر ضاحكًا! لا أذكر بماذا ردّ على طلبي الجريء، لكنني لن أنسى حركة إصبعيه وهو ينفض رماد سيجارته، كأنما يبدد معها تلك الفكرة الطموحة!

إيقاع صارم ودقة لا تخطئ

في الرأي العام، كان كل شيء يسير وفق منظومة صارمة، بدقة تفوق الساعات السويسرية.
أما أنا، فقد كنت فوضويًا بعض الشيء، محبًا للمزاح، وكان عليّ ضبط إيقاعي لينسجم مع أجواء المكان، حيث فرضت صرامة أستاذ إدريس حسن جوًا من الجدية، حتى إن مجرد الابتسامة كان لها وقعٌ لافت للانتباه!

في هذه المنظومة، لا تصل المواد الصحفية إلى القارئ إلا بعد المرور بمحطات صارمة من التدقيق والضبط، والخطأ كان استثناءً نادر الحدوث.
كل فرد في مكانه الصحيح، يؤدي دوره بإتقان، في بيئة عملٍ تسودها المهنية الرفيعة وروح الفريق الواحد.

أعمدة الصحيفة: رجال صنعوا مجدها

الأستاذ علي إسماعيل العتباني – رئيس مجلس الإدارة، رجل يحمل إرثًا تاريخيًا، يمتلك شبكة علاقات ممتدة، وروحًا أبوية تحثّ الجميع على التمسك بالقيم المهنية التي أرساها الأب المؤسس. بحكمته ولطفه، كان يعالج كل إشكال بأناةٍ وتروٍّ.

الأستاذ محجوب عروة – المدير العام، صحفي مخضرم، صاحب عقلية استثمارية قادرة على تحويل كل فرصة إلى نجاح باهر. مغامر بلا تهور، دقيق بلا تعنّت، دائم البحث عن التميز.

الأستاذ إدريس حسن – رئيس التحرير، ملك الخبطات الصحفية، ذاكرة فولاذية لا تصدأ، وماكينة ألمانية لا تهدأ. حين يُغلق عليه بابه لإجراء اتصالاته، تولد الأخبار الحصرية اللامعة، وتتصدر الصفحة الأولى.
رغم جديته الصارمة، كان عطوفًا، كريمًا، وفيًّا لزملائه وأساتذته.

الأستاذ البدوي يوسف – مدير التحرير، صحفي من طراز فريد، يتمتع بعينٍ ناقدة، وأصابع ماهرة في الصياغة والتجويد. يعمل بتركيزٍ عالٍ وأعصاب باردة، ممزوجة بحس فكاهي رفيع.

العم عوض الشايقي – رحمه الله، المسؤول الأول عن الإدارة والحسابات، بارع في التعامل مع الأرقام والبشر، يتمتع بابتسامةٍ تذيب الغضب، شخصية ودودة في التواصل، لكنه حازمٌ في ضبط الحسابات والإدارة.

كتيبة لا تُنسى

المساحة لا تكفي للحديث عن جميع أفراد كتيبة الرأي العام من الصحفيين والمحررين والمصححين والإداريين والفنيين والعمال، فلكلٍّ منهم معي قصة وحكاية، ولكلٍّ منهم مكانة راسخة في قلبي.

ولا تكفي كلماتٌ معدودة للحديث عن العالم حسن البشاري، أو عم باشري، أو بخاري، أو الحاج عبد الوهاب، أو عمر صالح، أو أبناء الخليفة العراقي، أو عن مازن بري، أنبل وأروع من عرفت.

السنوات الأخيرة: تجربة ناضجة ومتميزة

وسأخصص يومًا للحديث عن تجربتي في السنوات الأخيرة، التي كانت الأروع في مسيرتي المهنية، مع الأستاذ كمال حسن بخيت، والراقي اللطيف إسماعيل آدم، وصديقي العزيز أبو حباب محمد عبد القادر، ذلك الرجل الاستثنائي صاحب القلب الواسع، والذهن المتقد، والضمير النقي، الذي حمل مشروع إعادة الرأي العام إلى مجدها القديم.

الرأي العام: سبعون عامًا من العطاء

واليوم، وهي تبلغ السبعين، ستظل الرأي العام شابةً، نابضةً بالحياة، متمسكةً بعنفوانها ومهنيتها الرصينة، تزداد تألقًا ولا تنقص.

تحياتي لكل محرريها، وموظفيها، وعمالها، أولئك الذين منحوا هذه الصحيفة روحها وقيمتها، بقلوبٍ نقية، وأيادٍ تبني، وعقولٍ لا تعرف إلا الإبداع والتميز.
* نشر عام 2015.

مقالات ذات صلة