حقب تأريخية مختلفة ظل فيها القصر عصياً على المستعمرين..
مقتل غردون، ورفع علم الاستقلال مشاهد خالدة في ذاكرة القصر..
ستظل ملحمة الجمعة شاهدةً على كسر صلف ميليشيا آل دقلو..
حقب مضمخة بعبق النضال رسمها الرعيل الأول..
تقرير: إسماعيل جبريل تيسو..
ولا يزال التايم لاين يواصل الاحتفاء باسترداد القصر الرئاسي وتنظيفه من دنس ميليشيا الدعم السريع المتمردة، حيث حملت دلالات هذا الانتصار أبعاداً سياسية تتعلق برمزية القصر كمنصة لسيادة الدولة، ومقر لحاكم البلاد، فيما توغل الأبعاد التأريخية وتحفر بعيداً في جذور الثورة المهدية التي قتل ثوارها ومجاهدوها الحاكم الإنجليزي الجنرال تشارلز جورج غردون ليطوا بذلك صفحة سوداء من استعمار بغيض، فيما تتمدد جذور تأريخ القصر الجمهوري لتحكي عن حقبة مضمخة بعبق النضال رسمها الرعيل الأول من الحركة الوطنية بقيادة السيد إسماعيل الأزهري، وصحبه الكرام وعلى رأسهم السيد محمد أحمد المحجوب وقد رفعا علم استقلال السودان من على سارية القصر الجمهوري في الأول من يناير من العام 1956م، ليعيد التأريخ نفسه ويرفع أبطال القوات المسلحة والقوات المساندة علم السودان مجدداً في سارية القصر الجمهوري في الحادي والعشرين من مارس 2025م، إيذاناً بطرد ميليشيا آل دقلو ومحوها من المشهد السوداني.
نهاية أسطورة غردون:
ومثلما ظل قائد ميليشيا الدعم السريع الهالك محمد حمدان دقلو يتوعد ويهدد بأنها “ستمطر حصو، وستسكن عمارات الخرطوم القطط والكلاب” فقد كان الجنرال (تشارلز جورج غردون) يتمتع بذات النفخة الكاذبة، والنرجسية العرجاء، والغرور الزائف إذ ذاع صيته، وطبقت شهرته الأفاق، وعُرف بين أقرانه وجنوده بالقائد العظيم الآمر الناهي المتحكم بسلطة لا حدود لها، ولكن كل هذا السلطان والجاه والصولجان أصبح هباءً منثوراً أمام ثوار المهدية الذين اقتحموا ( قصره) فجر الاثنين 26 من يناير من العام 1885م، وأردوه قتيلاً ليطووا بمقتله صفحة من تأريخ الحكم التركي جثمت على صدر السودان لأكثر من ستين عاماً، لينتهي صلف وغرور غردون باشا على يدي أنصار ومجاهدي المهدية، وهي الحقيقة التي أذهلت الإنجليز وأصابتهم بصدمة كبرى، إذ كيف يموت مثل هذا القائد العظيم بأيدي هؤلاء الدراويش أصحاب الجلابيب المرقعَّة، وقد تناولت الصحافة الإنجليزية هذا الأمر مراراً وتكراراً، حيث برع الفنان الإنجليزي (جورج وليام جوي)، في رسم صورة متخيلة للطريق التي قُتل بها غردون باشا واطلق على اللوحة الفنية المعروضة حالياً على جدار معرض “ليدز سيتي” للفن اسم “الوقفة الأخيرة للجنرال غردون”، ولعل في دلالة الاسم حسرة على الرجل الذي كان يمثل أسطورة لدى الإنجليز لارتباطه الوثيق بتحقيق الانتصارات ولم يتجرع هزيمة طوال مشواره الحافل بالإنجازات إلا على يدي أنصار المهدية الذين سحقوه داخل القصر الجمهوري، ليؤكدوا بذلك أن السودان ” ألمي حار ما لعب قعونج”.
درس جديد للإنجليز:
لقد انتقل السودان بمقتل غردون باشا خطوة متقدمة على طريق تذوق طعم الحكم بيد أن الاستعمار البريطاني كان بالمرصاد، فعاد للالتفاف على الثورة المهدية في خواتيم القرن التاسع عشر ليُحِكم قبضته مجدداً على مفاصل البلاد، ويعود القصر الجمهوري الذي تم إعادة بنائه في العام 1900م، مقراً للحاكم العام، مكتسباً اهميةً أخرى بأن أصبح مزاراً للمسؤولين الإنجليز الذين درجوا على مشاهدته والوقوف على قيمته الأثرية كونه شهد مقتل الجنرال غردون أعظم الجنرالات الإنجليز، ولكن الدماء السودانية “الحامية” تظل دوماً تتوق إلى الحرية والانعتاق ورفض الضيم والارتهان للأجنبي، فكان الحراك الثوري الذي انتظم العديد من المواقع في السودان وانتهى بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر من العام 1955م، ولكن القصر الجمهوري يأبى وإلا أن يشكل حضوراً في مراسم تشييع حقب التيه والظلام، فقد شهدت باحته في صبيحة الأول من يناير من العام 1956م، إنزال علمي الحكم الثنائي البريطاني المصري، ورفع علم السودان القديم بألوانه الثلاثة الأزرق والأصفر والأخضر الذي يرمز إلى السيادة الوطنية، ويؤكد على تحرر السودان من قبضة الكبت والذل والظلم، ليبلور السودانيون حقيقة أن الشعب إن أراد الحياة فإن الإرادة قادرة على تطويع القدر وكسر القيد لتحقق الانطلاق، وقادرة على إضاءة شموع الإصرار والأمل، لتهزم الليل البهيم، وتشفي الجرح الأليم.
ميراث فخيم:
ولما كان “العِرِق دساس” والجينات متحكمة بشكل متماسك في تكاثر خلايا الوراثة، فقد ورث أبطال ملحمة القصر الجمهوري قيم الشجاعة والبسالة من أجدادهم الذين قتلوا غردون باشا في درج القصر الجمهوري، وأجبروا ثنائية الاستعمار الإنجليزي المصري على الإذعان إلى رغبتهم في الاستقلال، فما أشبه الليلة بالبارحة فها هم أسود القوات المسلحة يعيدون سيناريو الأمس، فإن اختلف الزمان، ولكن رمزية المكان، كانت شاهدة على هذا العنفوان، وتلك القدرة المدهشة على القتال ومنازلة ميليشيا آل دقلو التي بقيت متمترسة داخل القصر الجمهوري الصرح الجريح الذي ظل منزوع السيادة لنحو حولين كاملين، فكان فجر الجمعة الحادي والعشرين من مارس 2025م يوماً للخلاص، ورؤيةً لفكرة، استعادت في الوجدان أجمل ذكرى، إنها ذكرى استقلال السودان، نعم لقد كانت ملحمة الجمعة عيداً جديداً يضاف لأعياد البلاد الوطنية، كيف لا وقد سطر الفتية الذين آمنوا بربهم وازدادوا هدى، تأريخاً جديداً لسودان جديد بقهرهم ميليشيا الجنجويد، لقد أرادت القوات المسلحة والقوات المساندة لها أن تكتب سفراً ذي فصول ثلاث الشهادة والنصر والسيادة التي مثلتها ملحمة استعادة القصر، ليؤكد الجيش أن السودان لن يؤتى من القصر الجمهوري وإن ظل شهوراً عددا خارج ظلال الدولة، ولتكتب ملحمة الجمعة الظافرة، سفراً يعلن أن القصر صنوٌ للنصر.
خاتمة مهمة:
ومهما يكن من أمر فقد أعادت ملحمة الجمعة الظافرة القصر الجمهوري طائعاً على حضن الوطن، وأعادت في الوقت نفسه سيرة عطرة لتأريخ مضئ يمتدد لأكثر من 140 عاماً يحكي عظمة هذا القصر وقدرته العجيبة على عدم الخنوع والإذلال، ليبقى شامخاً ورمزاً يؤكد سيادة البلاد وعزتها ومجدها التليد، فشكراً قواتنا المسلحة والقوات المساندة لها وأنتم تحافظون على هذا الإرث، وثمة همسة نقول بها في أذن المسؤولين في الدولة، بألا يعيدوا ترميم أو تأهيل أو إعادة بناء القصر الجمهوري وليبقى بهيئته الحالية قيمةً أثرية ومعرضاً خالداً يحكي للأجيال نضالات الجيش السوداني، وقدرته على دحر الخونة والمرتزقة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.