*حول استقالتي من قيادة وعضوية الحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي- في أغسطس 2024 ناصف بشير الأمين*

لقد تقدمت بخطاب استقالتي من عضويةِ المكتب القيادي القومي ورئاسةِ مكتب الشؤون القانونية وحقوق الإنسان بالحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي ومن عضويةِ الحركة، في 05 أغسطس 2024، ولم أعد عضوا في الحركة أو قيادتها منذ ذلك التاريخ، ولذا وجب توضيح ذلك للرأي العام.
وكنت قد قررت عدم نشر خطاب الاستقالة في حينها لأنه يحتوي على بعض القضايا التنظيمية الداخلية التي قد يكون نشرها غير مفيد، إلا أنه لا يوجد ما يمنع تقديم ملخص للأسباب السياسة العامة للاستقالة، وسوف التزم فيه بشكل تام بالابتعاد عن الجوانب الشخصية – رغم حضورها الطاغي، والتركيز على قضايا الخلاف الموضوعية.
وكنت قد قررتُ تقديم هذه الاستقالة من قيادةِ وعضوية الحركة، منذ فترةٍ طويلة، ولكن رأيت تأجيلَ تقديمِها، بسبب الحرب الدائرة حاليا، والتي تُوجب التركيز على بناءِ أكبر جبهة مدنية لوقف الحرب وتحقيق السلام وإعادةِ وضع البلاد في مسار التحول المدني، بدلاً عن الانشغال بقضايا جانبية، ولكن وللأسف، لم يعد ذلك ممكناً، إذ لم يعد المتحكمون في قيادة الحركة يحتملون رأيي، ولم اعد احتمل أخطائهم السياسية التي لا تنتهي! لذلك لم يعد هناك خيار سوى الاستقالة!

ويجب الـتأكيد هنا على أنني لم أتقدم باستقالتي من الحركة بسبب أية أخطاء ارتكبتها، ولكن استقلت احتجاجا على أخطاء ارتكبها أخرون لا يزالون مصرين على تكرار أخطائهم وعلى ارتكاب المزيد من الأخطاء، بدل الاعتذار أو التراجع عن أخطائهم! وقد تكون هذه الاستقالة ليست فقط استقالة من عضوية وقيادة الحركة الشعبية، وإنما خروج نهائي من العمل الحزبي، بعد أكثر من 37 عاما.

هناك عدد من قيادات وأعضاء الحركة يتفقون معي في كل أو بعض أسباب الاستقالة التي سيرد ذكرها، بعضهم ما يزال داخل الحركة وبعضهم أعضاء في المجموعة التي أعلنت مؤخرا عن مفاصلتها عن قيادة الحركة واختارت طريقها الخاص– وذلك بعد تاريخ تقديم استقالتي، بقيادة الأستاذ أحمد تاتير والحاج بخيت.

هناك عدة قضايا خلافية سياسية وتنظيمية فشلت الآليات الداخلية في الحركة في إدارتها بطريقة ديمقراطية، واختلافُ وجهات النظر والتقديرات السياسية داخل الأحزابِ يُفترض فيه أنه أمرٌ طبيعي، بل أن البعضَ يعتبره دليلَ عافية! ولكن ذلك في الأحزابِ والحركات التي تحتكم إلى أطرٍ دستورية ومؤسسية حديثة تستطيع إدارةَ الاختلافات بطريقةٍ ديمقراطية تضمن عدمَ تحولها إلى خلافاتٍ أو انقسامات، اما في الأحزابِ التي يغيب فيها حكمُ الدستور والمؤسسات، لا يكون متاحاً فيها أمام أصحاب وجهاتِ النظر المخالفة “للزعماء” سوى خيارات محدودة جدا على رأسها الاستقالة.

التهرب من المراجعات ونقد الذات والإصرار على تكرار الأخطاء الجسيمة

لقد اُرتُكبت أخطاءٌ كثيرة باسمنا لم نكن راضين عنها، بل كنا قد حذرنا من أغلبِها قبل وقوعِها، ولكن للأسف، لم يعد لدى المتحكمين في قيادة الحركة استعدادٌ أو رغبةٌ في الاستماعِ إلى وجهاتِ النظر المخالفة في أي قضيةٍ سياسية أو تنظيمية. ولا أسجل هذا الكلامَ بغرض التنصلِ من مسؤوليةِ تلك الأخطاء، فكلُ الأخطاء التي اُرتكبت سواءً داخل الحركة أو على مستوى قوى الحرية والتغيير، حتى تاريخِ استقالتي، نشترك في تحمل مسؤوليتِها التضامنية بشكل كامل، وإن لم نشارك في ارتكابِها، ولكن يأتي ذلك من باب المراجعة النقدية وبيان الأسباب الموضوعية لهذا القرار الصعب.
والغريبُ هو أن الأشخاصَ المسؤولين عن ارتكابِ تلك الأخطاء بدل أن يتحملوا مسؤوليتَهم ويعتذروا عن أخطائهم ويكفوا عن ارتكابِ مزيدٍ من الأخطاء، قرروا بدلاً عن ذلك اعتمادَ سياسةِ المكابرة والهروب إلى الأمام والتمادي في تكرار الأخطاء القاتلة.

الالتزام بعدم نشر تفاصيل الخلافات الداخلية

هناك عدة قضايا خلاف تنظيمية يمكن اجمالها على العموم في الفردية وغياب الديمقراطية والمشاركة، وعدم الالتزام بأحكام الدستور، والعمل خارج المؤسسات، وضعف الرقابة وانعدام المساءلة، ورفض مبادرات الإصلاح والتجديد والبناء المؤسسي، وسوف امتنع عن الخوض في تفاصيل قضايا الخلاف الداخلية – في الوقت الحالي، لحساسيتها وراهنيتها، وكذلك لعدم أهميتها للرأي العام.

قضايا الخلاف السياسية

تبنت أجهزةُ الحركة استراتيجيةً سياسية تمحورت حولَ الالتزام بقضايا وأهداف ثورة ديسمبر 2018 وعملية التحول المدني الديمقراطي، والعمل على توحيد قوى التغيير والتحول المدني، وعدم الدخول في أي عملية سياسية لا تضمن تحقيق هذه الأهداف وعلى رأسِها، وقفُ الحرب وتحقيق السلام، وتفكيكُ تمكين المؤتمر الوطني وإعادةُ هيكلة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية على أسسٍ مهنية مستقلة، ووقف التدهور الاقتصادي، وتحقيقُ العدالة والعدالة الانتقالية، ورفض مكافأةِ فلول الإسلاميين وواجهاتهم على الانقلابِ على الحكومة الانتقالية وشن الحرب…إلخ.
ولكن لم يكن هناك أدنى التزام بذلك الخط السياسي الذي اعتمدته أجهزةُ الحركة التشريعية، وأصبح ما يراه المتحكمون في قيادة الحركة هو الخط السياسي، وفي ظلِ تعطيلِ استراتيجية الحركة وخطِها السياسي الرسمي، أصبحت مواقفُ الحركة تعتمد على منهج “رزق اليوم باليوم” وردودِ الأفعال للتطوراتِ السياسية المتلاحقة، خصوصاً مواقف طرفي الحرب، بالإضافة إلى التماهي مع توجهات “شلة صغيرة” من قياداتِ قوى الحرية والتغيير ولا حقا “تقدم وصمود” ظلت مواقفُها على الدوام متماهيةً مع مواقف العسكريين الانقلابيين وبعيدةً جداً عن قوى التغيير والتحول المدني.

لقد أدى الموقف المؤيد لانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي تبناه رئيس الحركة السابق الفريق مالك عقار إلى انقسام الحركة، وبروز التيار الثوري الديمقراطي الذي ميز موقفه من خلال تبني الخط السياسي الملخص أعلاه، ولكن المشكلة هي إن الأشخاص المتحكمين في قيادة الحركة استمروا عمليا في السير في ذات الاتجاه القديم الذي تسير فيه الحركة التي يقودها الفريق مالك عقار، عبر مواصلة الجري خلف الانقلابيين الذين يركضون بدرورهم خلف علي كرتي وحركته الإسلامية، والفرق الوحيد بين المهرولين السابقين واللاحقين هو في الشعارات واللغة “الثورجية” للأخيرين! وهذا يطرح السؤال حول مبررات تقسيم الحركة!؟

ينطلق المهرولون خلف الانقلابيين بمختلف لافتاتهم السياسية من الفكرة الرغبوية التي ترى إمكانية فك ارتباط قيادة الجيش الحالية بالحركة الإسلامية، وبعضهم وصل به التفكير الرغائبي حد الزعم بأن القيادات العسكرية التي قادت انقلابَ 25 أكتوبر 2021 وتورطت في شنِ الحرب الدائرة حالياً هي قيادات مهنية مستقلة عن قيادة الحركة الإسلامية! إن الانطلاقَ من إقرارِ حقيقة أن هذه القيادات العسكرية هي ليست قيادات مهنية مستقلة عن قيادة الحركة الإسلامية وفلول النظام القديم، غير انه يضع حد للضلال والتضليل المستمرين، فسوف يسمح ذلك بالعودةِ إلى منصةِ التأسيس والانطلاقِ من أرضيةٍ صلبة لتطوير مقاربةِ جديدة وذات مصداقية للتعامل مع المكونِ العسكري بطرفيه المتحاربين الآن، تقود إلى وقف الحرب والكارثة الإنسانية الناتجة عنها، وقطع الطريق على مخططات تقسيم السودان، وتعيد البلاد إلى مسار التحول السياسي.

لم يكن غالب أعضاء المجموعة التي احتلت كبينة قيادة قوى التغيير يملكون أيةَ استراتيجية ناجعة للتعامل مع أعضاءِ اللجنة الأمنية للنظام السابق، سوى استراتيجية تقديمِ المزيد من التنازلات للعسكريين واستجداءِ التسويات والصفقات السياسية، وقد ساعد ذلك الانقلابيين في توظيفهم واستخدامهم كغطاء سياسي لمغامراتهم الانقلابية وأجندتهم المعادية للتغيير والتحول المدني، وكانت المبرراتُ التي تُساق دائماً لكل من يعترض على نهج تقديمِ التنازلات المجانية والسخية للمكون العسكري، هي أنها تنازلاتٌ ضرورية لمنعِ وقوع الحرب أو انزلاقِ البلاد نحو الفوضى، وهشاشة الأوضاع الأمنية، والأخطارُ المحيطة بالبلاد …إلخ، وقد ظلت استراتيجيةُ هذه المجموعة هي ذاتها دون تغيير – قبل الانقلابِ وبعد الانقلاب، قبل الحرب وبعد الحرب!

وثبتَ تهافتُ هذه المبررات وعدمُ مصداقيتها بعد أن دفع فلولُ المؤتمر الوطني وأعضاءُ لجنتهم الأمنية البلادَ إلى المحرقة الشاملة، وتحققت أسوأ السيناريوهات التي كان يتم التخويفُ بها وتوظيفها كمبرراتٍ لتقديم التنازلات لهم، وذلك بعد اشعال الحرب الحالية التي تسببت في قتلِ الآلاف وتشريد الملايين من السودانيين، وتدمير البلادِ وبنيتِها التحتية، وباتت تهدد بتقسيمها، ويطرح ذلك الأسئلةَ حول مبرراتِ الاستمرار في تقديم التنازلات للفلول وواجهاتهم بعد “خراب سوبا!” وكأن المطلوبَ هو مكافأتُهم على شنِ الحرب وعلى الجرائم المرتكبة خلالها!

سوف أورد مثالاً واحداً، ولكنه بليغ الدلالة في بيان مدى التوتراتِ والخلاف حول الخط السياسي والموقف من قضايا التغيير والتحول السياسي، وحجم التنازلات التي قُدمت للانقلابيين في قضايا لا تقبل المساومةَ والتنازلات مثل ملفِ تحقيق العدالة والعدالة الانتقالية، والمثالُ يتعلق بما حدثَ في ورشةِ العدالة الانتقالية إحدى أهم ورشِ الاتفاق الإطاري التي نُظمت قُبيل اندلاع الحرب الحالية. وكنتُ قد شاركت في تلك الورشة بورقةٍ نُشرت لاحقاً تحمل عنوان: “العدالة الجنائية كمكون رئيسي للعدالة الانتقالية في السودان”، وكما هو واضح من العنوان، ركزت الورقةُ على مركزيةِ العدالة الجنائية والمحاكمات الوطنية والدولية في تصميمِ نموذج العدالة الانتقالية في السودان، وأيضاً على ما يتطلبه ذلك من ضرورةِ تبني استراتيجية للإصلاح والتغيير القانوني والمؤسسي الشامل لنظامِ العدالةِ الوطني، بما يضمن استعادةَ مهنيتِه واستقلاليتِه وقدرته على القيامِ بمهمة تحقيق العدالة، وتعزيز سيادة حكم القانون، ولكنني فوجئت بقيامِ القائمين على الورشة باستبعادِ الورقة من جدول أعمال الورشة بسبب أن محتواها سوف يسبب لهم حرجاً أمام أصدقائهم من العسكريين.
وبالرغم من أن الورقةَ كانت مقدمةً باسمي وصفتي المهنية كقانوني وليس باسم الحركة، وذلك لمعرفتي المسبقة بضعف وهشاشة المواقفِ السياسية، إلا أن القائمين على أمرِ الورشة، وفي سبيلِ إرضاءِ أصدقائهم العسكريين، كانوا على استعدادٍ للقيام بأي عملٍ لإسكاتِ أو إبعاد جميع الأصواتِ التي يمكن أن تعكرَ صفوَ تلك العلاقة!

قضيةُ وحدة قوى التغيير والتحول المدني الديمقراطي

نجحَ فلولُ نظام المؤتمر الوطني في إحداثِ عدة اختراقاتٍ في كتلةِ قوى التغيير وخلقِ ولاءاتٍ وتحالفات عبر استمالةِ عناصرَ كانت محسوبةً على معسكر قوى التغيير، وساعدتهم على ذلك حقيقةُ أن العناصرَ التي تصدت لقيادةِ قوى التغيير بعد ثورة ديسمبر 2018 ضمت بعضَ الأفرادِ والمجموعاتِ السياسية التي ليس لديها التزامٌ جدي بمشروع التغيير، بل ثبت أن بعضَهم لديه استعدادٌ تام لتبني خطٍ معادٍ لعمليةِ التحول السياسي والانتقالِ إلى معسكر القوى المضادة للتغيير (تحالف اعتصام القصر المؤيد لانقلاب 25 أكتوبر 2021).

وهناك أيضاً عناصر وسطَ قيادة قوى التغيير تتبنى رؤيةً لتغيير سياسي متحكم فيه لا يطال الأسسَ الاقتصادية والاجتماعية لدولة التمكين، وذلك بسببِ تقاطعاتِ المصالح وتقاطعات أخرى! وتتميز هذه العناصرُ بوجودِ “حبلٍ سري” متين كان يربطُها بالمكونِ العسكري في السلطة الانتقالية، ولا يزال، وهي لا تمتلك أيةَ تصور لعمليةٍ سياسية غير الدخولِ في شراكةٍ مع العسكريين! وظلت لذلك ترفض التعاطيَ مع أي وجهةِ نظرٍ مغايرة، أو الانفتاحَ على أي تصوراتٍ لعملية سياسيةٍ بديلة وذات مصداقية قادرة على وضع البلادِ في مسار تحولٍ سياسي مستدام- قبل وبعد انقلابِ 25 أكتوبر 2021، وقبل وبعد اندلاعِ الحرب الحالية.
وفي الوقتِ الذي يحتفظ فيه هؤلاء بعلاقاتٍ وطيدة وخطوط تواصل مفتوحة مع العسكريين من طرفي الحرب، ليس لديهم رغبةٌ جادة في الانفتاحِ والتواصل مع بقية مكوناتِ قوى التغيير المدنية أو المهنية بهدفِ خلق مركزٍ موحد للقوى المدنية صاحبة المصلحة في التغيير والتحول الديمقراطي، أو على الأقل خلق إطارٍ تنسيقي فيما بينها. وفي ظل حالة الاستقطاب الحادة التي أفرزتها الحرب، وممارسات المجموعات الإرهابية، وتصعيد خطابات الكراهية الإثنية والجهوية، وتبنى سياسة استهداف “الحواضن الاجتماعية” من قبل طرفي الحرب، أدى ذلك إلى انقسام تحالف “تقدم” وبروز كتلة “تأسيس”، بدل أن تتحمل قوى التحالف مسؤوليتها وتعمل على تطوير صيغة لتوحيد القوى المدنية أو على الأقل خلق لإطار تنسيقي فيما بينها.

إن توحيدَ قوى المدنية صاحبة المصلحة في التغيير أو خلقَ إطارٍ تنسيقي فيما بينها هو الطريق الوحيد لوقف الحربِ ومنعِ الانهيارِ الشامل وقطع الطريق على مخططات تقسيم ما تبقى من السودان، والعودةِ لمسار التحول المدني، ولن يتم ذلك على إلا على أساسٍ التوافق على مشروعٍ ذي مصداقيةٍ للبناء الوطني وكفالة حقوق المواطنة المتساوية بلا تمييز وإعادة هيكلة الدولة السودانية وتحقيق السلام ووضع حدٍ للكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب.

وبالرغم من أن قوى الحريةِ والتغيير قد أجرت بعضَ التقييم والمراجعاتِ لتجربتها، إلا أن هناك جوانب ظلت في دائرةِ المسكوت عنه، ولم تخضع للتقييم النقدي بطريقةٍ موضوعية. ومن ذلك غيابُ المؤسسية والرقابة والمحاسبة، وتحكمُ الشلليات والتكتلات، والفشل في انهاء انقسام قوى التغيير، واقصاء وتهميش القوى المدنية غير الحزبية – الشبابية والمهنية التي قادت التغيير، والفشلُ في تبني استراتيجية ناجعة وذاتِ مصداقية في التعامل مع اللجنةِ الأمنية لنظام البشير بطريقةٍ تضمن عدمَ التفريطِ في الأهدافِ المركزية لعملية الانتقال والتحول المدني، وتساهم في وقف الحرب ومنع تقسيم البلاد، وتماهي بعض أعضاء “الشلة” مع العسكريين وتوجهاتِهم على حسابِ أجندةِ التغيير والتحول المدني، لدرجة أن علاقةَ بعضِهم بالمكون العسكري بطرفيه المتحاربين أصبحت بمرور الوقت أقوى من علاقتِهم بكل مكوناتِ قوى التغيير المدنية!
إن الأسباب التي أدت إلى فشل وتفكك تحالف قوى الحرية والتغيير هي نفس الأسباب التي أدت إلى فشل وانقسام تحالف “تقدم”، وهي ذات الأسباب التي يرجح أن تؤدي إلى فشل تحالف “صمود”، طالما استمر منهج ترحيل الأزمات والقنابل الموقوتة من تحالف إلى آخر من خلال الاكتفاء بتغيير اللافتات دون المراجعة النقدية لتجربة التحالف وتشخيص أسباب فشله قبل الانتقال لتكوين تحالف جديد.

لا شكَ أن محاولاتِ الفلول الساعية إلى شيطنةِ قيادات الحرية والتغيير أو “صمود” وتحميلهِم مسؤولية كل الكوارث التي ارتكبوها، وعلى رأسِها كارثةُ الحرب، لم ولن تتوقف، ولكن ينبغي الاعترافُ أيضاً بأن بعضَ هؤلاء القيادات لم يقصروا في شيطنة أنفسِهم بأنفسِهم!

ومع عدمِ اغفال العوامل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تشكلُ الشروطَ الموضوعية للواقع السياسي السوداني، فإن فتحَ البابِ أمام المراجعاتِ الجادة وذات المصداقية وتحمل مسؤولية الأخطاء هو السبيلُ الوحيدُ للبدايةِ الصحيحة والعودةِ لمنصة التأسيس، وللخروجِ من حلقة تجريبِ المجرب وتكرار ارتكاب ذاتِ الأخطاء بواسطة ذات الأشخاص الذين لا يملون من تكرارِ أخطائِهم ولا يتعلمون منها!

إن عدمَ وجود أطرٍ قانونية ومؤسسية فاعلة للرقابةِ والمحاسبة خلق بيئةً مثالية لتكريسِ ثقافة الحصانة والإفلاتِ من المساءلة وسط القياداتِ السياسية، سواءً على مستوى الأحزابِ أو التحالفات، ولا يمكن وضعُ حدٍ لمسلسل أخطاءِ وكوارث القيادات السياسية، دون وضع حدٍ لثقافةِ الحصانة والإفلات الدائم من المساءلة، وإلى أن يتم ذلك، سوف يستمر تجريبُ المجربِ، وسوف تستمر ذاتُ القيادات في تكرار ذاتِ الأخطاء القاتلة، دون كللٍ أو ملل! وسوف يستمر الانقلابيون في استخدام هذه القيادات السياسية كأدوات لتوفير الغطاء السياسي لأجندتهم ومغامراتهم الانقلابية والحربية وربما الانفصالية!

تجربة اتفاقية سلام جوبا 2020

ومن قضايا الخلافِ أيضاً رفض مطلب مراجعة وتقييم تجربةِ اتفاقية سلام جوبا 2020، وقد كان القصدُ من المطالبةِ بمراجعة وتقييم التجربة ليس محاكمة الأشخاص أو ممارسة جلدِ الذاتِ، وإنما تشخيص الأخطاءِ ومسبباتها بغرض التخلص منها وضمان عدم تكرارِها في المستقبل.
رأى غالبية أعضاء الحركة في مفاوضات سلام جوبا فرصةً نادرة لتحقيق السلامِ والتحول الديمقراطي كحزمةٍ واحدة، ولكن تكشفت سريعا حقيقةُ وجود مسارين متوازيين للمفاوضات في جوبا؛ مسارٌ رسمي فوقَ الطاولة والذي تم فيه توقيعُ اتفاقية السلام 2020، ومسارٌ موازٍ تحت الطاولةِ، أو بتعبير مني أركو مناوي: “تحت السرير!” لم يكن لدى الكثيرين من المنخرطين في المفاوضات الرسمية علمٌ به، ولكن، وكما أثبتت الأحداثُ اللاحقة، كان المسارُ الثاني هو المسارَ الرئيسي في جوبا والذي تم من خلاله إبرامُ التحالفِ بين العسكريين والحركات المسلحة والمجموعات التي انضمت لاحقاً إلى تحالف اعتصام القصر الجمهوري، واتفاقهم على دعمِ هذه الحركات لانقلابِ 25 أكتوبر 2023 ضد المكونِ المدني في الحكومة الانتقالية وضد عملية التحول المدني في مجملِها، وإن المسارَ الرسمي لم يكن سوى مجرد غطاءٍ سياسي لما كان يحدثُ في المسار الموازي “تحت السرير!”

ولكن لم يكن ذلك كافياً، في نظر المتحكمين في قيادة الحركة، للقيامِ بإجراءِ تقييم نقدي رسمي لهذه التجربة المرة، بل كانت هناك دعواتٌ لأحياءِ تحالف الجبهة الثورية مع ذاتِ حركات تحالف اعتصام القصر الجمهوري!

هذه باختصار بعض أهم نقاط الخلاف السياسي داخل المكتب القيادي للحركة، التي شكلت أساب استقالتي من قيادة وعضوية الحركة، وهناك قضايا داخلية كثيرة وعلى قدر كبير من الأهمية، ولكنني سوف امتنع عن الخوض فيه للأسباب المبينة أعلاه، ولعدم أهميتها للرأي العام.

وأتمنى أن يشكل نشر هذا المقال التوضيحي مساهمة في الحوارات الجادة الهادفة إلى فتح الباب أمام المراجعات النقدية لتجربة الحركة وعموم قوى التغيير المدنية، بغرض العودة إلى منصة التأسيس والتوافق على مشروع وطني ديمقراطي يوقف الحرب ويمنع انهيار أو تقسيم السودان، ويوقف الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب، ويعيد البلاد إلى مسار التحول السياسي.

ناصف بشير الأمين
كاردف – 08 مايو 2025

مقالات ذات صلة