سودانير: الناقل الوطني بين تراث الدولة ومتلازمة التآكل المؤسسي
بقلم: عبدالجبار عبدالعاطي
حين تُصاب أجنحة الوطن بالشيخوخة
منذ تأسيسها في العام 1946، شكّلت “الخطوط الجوية السودانية” (سودانير) إحدى رموز السيادة الوطنية، وامتدادًا طبيعيًا لدور السودان الإقليمي في إفريقيا والعالم العربي. كانت من أوائل شركات الطيران في القارة، وامتلكت شبكة واسعة من الوجهات وطائرات تخترق سماء لندن، روما، ومومباسا.
لكن اليوم، تقف سودانير شبه مشلولة، بأسطول شبه معطل، وسمعة دولية محدودة، وقدرة تشغيلية بالكاد تُذكر. إنها ليست مجرد أزمة شركة؛ إنها أزمة نظام مؤسسي بأكمله.
أعراض مرض مزمن: التآكل المؤسسي في مؤسسات الدولة
ما تعانيه سودانير ليس استثناءً، بل هو انعكاس لظاهرة عالمية تصيب الشركات الحكومية متى ما افتقرت للإصلاح، والمحاسبة، والتجديد. يمكن تلخيص أبرز هذه الأعراض في:
1. ترهل إداري واسع النطاق، يتمثل في تضخم الهياكل وتكرار الوظائف.
2. الاعتماد على التوظيف السياسي أو الاجتماعي، لا الكفاءة التشغيلية.
3. جمود تنظيمي وتمسك بأنظمة تشغيل تعود لعقود مضت.
4. ضعف ربط الأداء بالحوافز والمساءلة.
5. تآكل ثقافة السوق والربحية، لصالح اعتبارات داخلية ونقابية.
6. بيروقراطية مفرطة تُعطل اتخاذ القرار وتمنع الاستجابة لفرص السوق.
الحظر الدولي: شماعة أم سبب حقيقي؟
صحيح أن العقوبات الأمريكية – التي فُرضت على السودان لعقود – حرمت سودانير من شراء الطائرات الحديثة أو الحصول على قطع غيار من Boeing أو Airbus، لكن الحظر ليس التفسير الوحيد للتراجع. شركات أخرى في دول خاضعة لعقوبات مشابهة استطاعت أن تُبقي على استمراريتها بل ونموها. المشكلة الأكبر في حالة سودانير هي الشلل الداخلي وعدم القدرة على التكيّف.
مثال على ذلك، فشلت سودانير في استثمار الخيارات البديلة مثل:
• طائرات من شركات غير أمريكية (Embraer البرازيلية، COMAC الصينية، Sukhoi الروسية).
• التعاقد مع مزودي خدمات من دول محايدة أو عبر تسجيل خارجي.
• الدخول في شراكات تشغيل ذكية مع ناقلين إقليميين كما فعلت شركات أصغر حجمًا.
عوامل تعمّق الأزمة: النقابات والجمود الاقتصادي
من المظاهر البارزة في حالة سودانير، تغلغل النقابات العمالية، خاصة في قطاع الطيارين، الذين يطالبون بامتيازات تشغيلية ضخمة في ظل انهيار الإيرادات. هذه الظاهرة ليست محلية فقط، بل حدثت في KLM والخطوط الأمريكية سابقًا، حيث اصطدمت برامج التحديث بصوت المطالب النقابية، مؤدية إلى جمود شبه كامل.
الفرق هو أن تلك الشركات استطاعت احتواء الأزمة ضمن منظومة حوكمة فعالة؛ بينما في سودانير، ظلت الشركة أسيرة هذه التكتلات بلا قدرة على المناورة.
النموذج البديل: شركة طيران جديدة بهوية اقتصادية مستقلة
في ضوء هذا التكلس، فإن إصلاح سودانير من الداخل لم يعد خيارًا مجديًا. المطلوب اليوم هو قفزة نوعية، عبر إنشاء شركة طيران وطنية جديدة، لا ترتبط سياسيًا أو إداريًا بسودانير، بل تنطلق من هوية اقتصادية عصرية ومستقلة.
مقترح المشروع الجديد:
1. شركة مساهمة عامة (Public-Private Airline Company):
• لا تملكها الدولة، بل يُفتح الاكتتاب فيها للعامة، وللمغتربين، وللمؤسسات المالية.
• يُمكن طرح حصة لمستثمر استراتيجي في قطاع الطيران أو الخدمات اللوجستية.
2. تسجيل دولي مرن:
• يمكن تسجيل الشركة خارج السودان (مثل دبي أو البحرين أو جيبوتي) لتفادي قيود العقوبات والربط السياسي.
• هذا يفتح أبوابًا للتأجير التشغيلي (leasing) والدخول في اتفاقيات دولية بحرية أكبر.
3. نموذج تشغيل حديث ومرن:
• استخدام أسطول صغير منخفض الكلفة (مثل ATR، E-Jets، أو طائرات COMAC).
• الاعتماد على الخدمات الرقمية في الحجز، وخدمة العملاء، والتشغيل الداخلي.
4. فريق تشغيل دولي مستقل:
• استقطاب خبراء طيران بخبرة في التشغيل منخفض التكاليف (Low-cost carriers).
• فصل الإدارة تمامًا عن التدخل السياسي أو النقابي.
5. تركيز أولي على السوق الإقليمي والمغتربين:
• الربط بين الخرطوم ومراكز المغتربين (الرياض، جدة، القاهرة، إسطنبول).
• ثم التوسع لاحقًا عبر اتفاقيات مشاركة الرمز (code-sharing) مع شركات عالمية.
هل يمكن تجاوز الحظر الأمريكي؟ نعم، إذا فُهمت اللعبة جيدًا
رغم صرامة القوانين الأمريكية، فإن الواقع التجاري يثبت أن الولايات المتحدة لا تمانع في إعطاء استثناءات (licenses) إذا توفرت مصلحة اقتصادية واضحة.
وقد حدث ذلك سابقًا مع:
• إيران: سمحت إدارة أوباما بصفقات ضخمة مع Boeing بعد الاتفاق النووي.
• كوبا: سُمح بتسيير رحلات أمريكية رغم الحصار الطويل.
• السودان نفسه بعد 2017: دخلت GE وHoneywell في محادثات فنية أولية.
شروط الحصول على استثناءات:
1. أن تكون الشركة مستقلة عن الحكومة.
2. وجود كيان قانوني وسيط (مُسجل في دولة ثالثة).
3. تقديم المشروع كفرصة اقتصادية محضة دون طابع سياسي.
4. التفاوض عبر شركات أمريكية لديها مصلحة مباشرة (مثل Boeing Global Services، GE Aviation، AAR Corp).
مقارنات من الواقع:
• طيران أديل (السعودية): أُسس كمنافس داخلي للخطوط السعودية، ونجح في الوصول إلى شرائح واسعة.
• Ethiopian Airlines: حكومية لكنها نُظمت وفق إدارة ربحية مستقلة.
• Air Peace (نيجيريا): شركة خاصة برزت رغم الفوضى التنظيمية في بلدها.
• Mahan Air (إيران): تجاوزت العقوبات عبر الشراكات ونقل الطائرات بتسجيل أجنبي.
مستقبل الطيران الوطني لا يُبنى على الذكرى، بل على الجرأة
ما يحدث لسودانير اليوم ليس نهاية، بل هو لحظة صدق تاريخية.
قد لا يمكن إنقاذ هذا الجسد العجوز عبر الأدوية التقليدية، لكن يمكن للسودان أن يصنع جناحًا جديدًا يحلق به في سماء المنافسة الإقليمية والعالمية.
شركة وطنية بهوية اقتصادية، ومرونة تشغيلية، واستقلال قانوني، يمكن أن تكون نقطة الانطلاق، لا بديلاً رمزيًا لسودانير، بل نموذجًا وظيفيًا للسودان الذي نطمح إليه.