———————————
لا يُروى الفن السوداني، ولا تُسرد حكاياته، دون أن يمرّ الحديث على صديق أحمد. هو ليس مجرّد اسم، بل حالة فنية متكاملة، ورمز لأصالة لا تتبدد، وشاهد على أن الجمال حين ينبت في الأرض الطيبة، لا تمحوه الأيام.
ولد صديق أحمد في أرضٍ نضج فيها الطمبور كما تنضج البلح في نخيل الشمالية، فكان ابن البيئة و النيل ، ومرآتها، وصوتها الأعلى.
وفي زمنٍ كانت فيه الأغنية السودانية تعيش مخاض الحداثة والانفتاح على الآخر، اختار أن يظل وفياً للأصل، يُغنّي للناس بلغتهم، وبأداتهم، وبإيقاعهم، دون أن يتنازل عن الجمال أو الذوق أو العمق.
لقد استطاع صديق أحمد أن يوسّع من خارطة الطمبور،
فلم يعد حبيساً في الشمال، بل أصبح يُسمع في الخرطوم، وفي الجزيرة، وفي المغتربات، وفي أعراس المدن، كما في مزارع الريف.
لم يكن مجرّد صوتٍ جميل، بل كان حاملًا لرسالةٍ ثقافية وموسيقية عميقة، كان الطمبور في يده يتجاوز دوره كآلة بسيطة،
ليتحول إلى مدرسة كاملة في التعبير، والانتماء، والهوية.
وإن تأملنا مسيرته الغنائية، نجدها حافلة بأغنياتٍ تنبض بالحياة، وتحتفظ بعمق التجربة الإنسانية، من “يا قمرة”، إلى “عديلة عليك”، ومن “دحين يا يابا”، إلى “عين الشمس”، ومن “سلطان زمانك” إلى “سمحة العافية ود أبوزيد”، وغيرها من الأعمال التي لم تكن مجرد كلمات ملحّنة، بل كانت صورًا ناطقة من وجدان الشمالية، ومن تفاصيل الحياة السودانية بأكملها.
لقد نافس بأغنيته الشعبية البسيطة أعظم أعلام الأغنية الحديثة،
وقف بجانب أحمد المصطفى، وإبراهيم عوض، وعثمان حسين، ومحمد وردي، لا بسلاح التوزيع الموسيقي الضخم، بل بالطمبور، والصوت الملئ بالشجن، والصدق، والعُمق. وحين طلب منه وردي ذات مرة أن ينتقل إلى الأغنية الحديثة، ردّ صديق أحمد برقيّ الواثق: “الطمبور يكفيني، وهو الطريق الذي أعرفه للوصول إلى قلوب الناس”.
صديق أحمد لم يكن صوتًا فقط، بل مدرسة في السلوك، وفي التواضع، وفي الصدق. كان يُنصت للناس قبل أن يُغني لهم،
وكان يؤمن أن الفنان الحقيقي هو من يحمل همومهم، لا من يتغنّى بأوجاع لا يعيشها.
وقد كان منزله مأوى للمواهب الجديدة،
يفتح بابه بلا موعد، ويستقبلهم كما يستقبل الأب أبناءه، يُقدّم لهم النُصح، ويُدلّهم على الطريق، وقد صار الكثير منهم أصدقاءه، وامتدادًا طبيعيًا لمسيرته.
كان يردّد دومًا: “أغاني الطمبور يجب أن تكون واضحة، الكلمات فيها مثل الماء، تجري في أذن السامع دون عوائق”، وكان يرى أن مخارج الحروف ليست ترفًا لغويًا، بل احترامًا لجمهورٍ واسع ومتنوع، يفهم ويُدقّق، ويُحاسب الفنان على كل لفظٍ ونغمة.
يا حلاوة العُشرة وكتين تبقي صـح صـح
ويا حلاة الريده وكتيـن تصفـى تفـرح
يا حلاة ليلاً معـاك مـا درنـا يصبـح
ويا حلاة صبحاً معاك تكون إنت المُصبِّح
في الربيع قالوا الزهـور تنضـر تفتـح
لقد مثّل صديق أحمد حالةً من التوازن بين الأصالة والانفتاح، فهو الذي وُلد بين النخيل والنيل، وغنّى للقمح، وللدمعة، وللوجدان، وجعل من الطمبور سفيرًا ثقافيًا، يشبه نيل الشمال، وثبات الصحراء، وطيبة الناس.
وامتازت تجربته الغنائية بالتنوُّع والخُرُوج عن النمطية مع احتفاظها بالطابع المميز، وغنّى من كلمات عبد الله محمد خير “دحين يا يابا ماك مشتاق” و”عين الشمس تنزل خجيلانة”،
ومن إبداع حسن الدابي غنّى: “صحيح يا عبده أخوي قولك حقيقة وكتير الطفشها الجلا من فريقها”.
كل أغنية كانت بمثابة مشوار، وكل مشوار كان “عديلاً” على طريقة صديق أحمد، واضحًا، واثقًا، مليئًا بالعاطفة والمغزى.
إن رحيله لا يشبه أي غياب، فهو ليس فقط فنانًا ودّعنا، بل هو صفحة من تاريخنا أُغلقت، وقامة لا تتكرر. لقد انكسر وترٌ من أوتار السودان، وترٌ لم يكن في آلة، بل في القلب.
ورغم صراعه الطويل مع المرض، ورغم ما وجده من تجاهل رسمي، ظلّ صديق أحمد شامخًا، صابرًا، مبتسمًا، حتى لحظة الوداع الأخيرة.
ونحن، وإن تأخرنا، نقولها الآن: سامحنا يا يابا صديق، سامحنا إن قصرنا في وداعك، لكنّك لم ترحل، ما دامت نغماتك تسكن تفاصيلنا، وما دام الطمبور يشدو باسمك، وما دامت أغنياتك تروي حكايتنا.
برحيل صديق أحمد، طوى السودان صفحة من أنقى صفحات فنّه الأصيل، فقد فقدنا رمزاً من رموزه وعلماً من أعلام الطنبور. كان “ملك ملوك الطنبور” بحق، ورغم أن صوته قد غاب، إلا أن أنغامه ستظل حيّة، تحلّق في سماوات الوجدان السوداني، تروي حكاية فنانٍ استثنائي وزمنٍ لا يُنسى.
—-
أحمد بن عمر
أبريل 2025