الناشر
دار المصورات للطباعة والنشر والتوزيع (2025)
تقديم الطَّبعة الرَّابعة
مذكِّرات يوسف ميخائيل عن التُّركيَّة (1821-1885) والمهديَّة (1881-1898) والحكم الثُّنائيُّ الإنجليزيُّ- المصريَّ (1898-1956) مذكِّرات أنتجتها الصُّدفة؛ لأنَّ صاحبها لم يكن مخطَّطًا لتدوينها؛ ولم تكن عمليَّة التَّدوين صنعته. لكنَّ الأقدار فرضت عليه عقوبة سجن قصيرة الأمد بسجن مدينة الأبيِّض العموميَّ عام 1934؛ لأنَّ زوجته فكتوريا قد أدينت بصناعة الخمور البلديَّة (العرقيَّ)، فكان دفعها بأنَّ زوجها مصاب بداء الرَّبو، وأنَّ العرقيَّ يُعدُّ من الأدوية الناجعة في علاجه. إلَّا أنَّ هذا الدَّفع لم يشفع لها من طائلة العقاب، فقضت مع زوجها شهرًا كاملاً بالسِّجن. وأثناء زياراته المتكرِّرة للسَّجن، قابل إ. إف. أقلن (E. F. Aglen)، مساعد مفتِّش وسط كردفان، يوسف وفكتوريا في السِّجن، وكان على دراية بأنَّ يوسف قد وُلِد في مدينة الأبيِّض، وله إلمام واسع بتاريخ كردفان، ووقائع حصار الأبيض وتحريرها في المهديَّة، فطلب من إدارة السِّجن أنَّ توفُّر ليوسف أوراقًا وأقلامًا لتسجيل أحداث حياته الطَّويلة والمثيرة للانتباه. وفي نوفمبر 1954 كتب أقلن مقدِّمة لمذكِّرات يوسف ميخائيل، وكان يأمل أن يقوم ب. م. هولت (P.M. Holt) بترجمتها إلى اللُّغة الإنجليزيَّة. ويبدو أنَّ هولت قد أخذ نسخةً من مخطوطة المذكِّرات معه إلى مدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن، حيث كانت المخطوطة موضوع أطروحة صالح محمَّد نور؛ لنيل درجة الدُّكتوراه في التَّاريخ. وعندما أُودعت الأطروحة إلى المناقشة عام 1962، كانت تتكوَّن من مقدِّمةً طويلةً عن المخطوطة وصاحبها، وتحقيق محكمٍ لنصوصها، وشرحٍ لبعض مفرداتها الدارجة، وترجمات وتعريفات لمعظم أسماء الأعلام والأماكن الواردة فيها، ثمَّ ترجمة نصِّها وكتابة حواشيها باللُّغة الإنجليزيَّة.
لكنَّ السُّؤال الَّذي يطرح نفسه، لماذا الطَّبعة الرَّابعة؟ خطيت مذكِّرات يوسف ميخائيل في نسختها المحقِّقة، الصَّادرة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافيِّ بأمِّ درمان في ثلاث طبعات (2004، و 2007، 2017)، بقبولٍ واسعٍ من القرَّاء والباحثين؛ لأنَّها تطرَّقت إلى كثيرٍ من الأحداث المفصليَّة في تاريخ ثلاث حقب متعاقبة من تاريخ السُّودان، كما أنَّها اتَّسمت ببعض التَّفرُّد اللُّغويِّ، بحكم أنَّ نصَّها قد كُتب بلغةٍ هجينٍ، يغلب عليها لسان أهل كردفان، واحتوى النصُّ على مصطلحات إداريَّة وعسكريَّة كانت متداولةً في العهدين التُّركيِّ-المصريِّ والمهديَّة، فضلاً عن أنَّها تحمل مشاهدات وملاحظات رجل عاش في كردفان، ورافق قوات المهدية في حركتها من الأُبيض إلى أم درمان، وشهد أحداث حصار الخرطوم وتحريرها، وجالس الإمام المهدي والخليفة عبد الله. وبعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، زاد الطَّلب على مذكرات يوسف ميخائيل؛ لأنَّها تُعْدُّ من المصادر الأوَّليَّة النَّادرة الَّتي تناولت- بالتَّفصيل- حصار العاصمة الخرطوم وتحريرها، والقضاء على تشارلس غردون، حاكم عام السودان آنذاك، والأحداث الَّتي شهدتها المدينة أثناء فترة التَّحرير وما بعدها. ودرج بعض الكُتَّاب والصِّحافيِّين المعاصرين على عقد مقارنات بينما حدث لمدينة الخرطوم من تحرير ونهب وتدمير في فترة المهديَّة وما أصابها من تخريب ونهب وانتهاك لأعراض الناس أثناء فترة سيطرة قوَّات الدَّعم السَّريع على المدينة الجريحة. لا جدال في أنَّ هذه المقارنات قد دفعت بعض القرَّاء والباحثين إلى البحث عن مذكِّرات يوسف ميخائيل؛ للوقوف على حقيقة سرديات صاحب المذكِّرات عن تحرير الخرطوم بأنفسهم، دون الاعتماد على القراءات المجتزأة، أو التي تجرد الأحداث من سياقاتها التاريخية للوصول إلى نتائج مبتسرة. يبدو أنَّ تصاعد الطَّلب على المذكِّرات، الَّتي نفدت طبعاتها الثَّلاث من المكتبات التِّجاريَّة قد دفع الأستاذ أسامة عوض الرِّيح بحدسه الوراقي إلى التَّفكير في إعادة طباعتها في نسخة رابعة عن دار المصوَّرات للطِّباعة والنَّشر.
فجزيل الشُّكر والعرفان إلى المدير العامِّ لدار المصوَّرات على مبادرته الثاقبة؛ لأنَّ مذكِّرات يوسف ميخائيل ستظلُّ عملاً تاريخيًّا مهمًّا؛ لأنها تجسِّد تجربةً إنسانيَّةً عميقةً؛ لرجل عاصر ثلاث حقب من تاريخ السُّودان الحديث. وعلى الرَّغم من ذلك توجد بعض النِّقاط القابلة للأخذ والرَّدِّ في المذكرات، والَّتي تقتضي الموضوعية العلمية أن نتعامل معها بحذرٍ، ونضاهي سردياتها مع الأعمال النَّظيرة لها، أمثال: مذكِّرات بابكر بدري، وكتاب سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي لإسماعيل بن عبد القادر الكردفاني، ومرويَّات سجناء المهديَّة. لأنَّ يوسف ميخائيل لم يكن مؤرَّخًا أكاديميًا محترفًا؛ لكنَّه دوَّن معظم الأحداث الَّتي شاهدها، والَّتي كان طرفًا مشاركًا في صنعها. وسواء كان متحيِّزًا في رواية بعضها وصادقًا في بعضها الآخر، فهذا لا يقلِّل من قيمة المذكِّرات التَّاريخيَّة، الَّتي ستظل مصدرًا أوَّليًّا رئيسًا لدراسة تاريخ السُّودان السِّياسيِّ والثَّقافيِّ والاجتماعيِّ في الحقب التاريخية التي عاصرها المؤلف.
أحمد إبراهيم أبوشوك
الدوحة، 19 أبريل/نيسان 2025