*ضبط الأمن في الخرطوم بعد عامين من الحرب: خطوة في الاتجاه الصحيح تتطلب تكامل الجهود سامي النمر*

🔹في خضم الحرب الكارثية التي مزقت السودان على مدى أكثر من عامين، جاء قرار الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، بإطلاق عملية لضبط الأمن وإعادة الاستقرار إلى العاصمة الخرطوم كخطوة ضرورية وطبيعية طال انتظارها. فالعاصمة التي كانت ذات يوم رمزاً للحياة السياسية والثقافية في السودان، باتت مرتعاً للفوضى والسلاح العشوائي والعصابات المنظمة، نتيجة للانهيار الأمني الذي واكب الحرب الممتدة منذ أبريل 2023.

🔹منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحولت الخرطوم إلى ساحة مفتوحة للقتال والانفلات الأمني. ومع انسحاب مؤسسات الدولة من المشهد، برزت جماعات متفلتة، بعضها معروف باسم “9 طويلة”، وأخرى مجهولة تنتحل صفات عسكرية وتمارس أعمال السلب والنهب والترويع، بينما انتشر السلاح بين أيدي المدنيين والجماعات القبلية دون رادع قانوني. ولم يقتصر الأمر على الخرطوم وحدها، بل امتد ليشمل مدناً أخرى مثل أم درمان وبحري ونيالا وود مدني، ما تسبب في خلق بيئة خصبة للجريمة المنظمة، وشبكات الاتجار بالبشر والسلاح والمخدرات، في ظل غياب تام لمؤسسات العدالة والقانون.

🔹يأتي قرار ضبط الأمن بعد سلسلة من الزيارات الميدانية المكثفة قام بها عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين، وعلى رأسهم الفريق إبراهيم جابر عضو مجلس السيادة، والذي أظهر حضورًا لافتًا في قيادة هذه الجهود على الأرض. وقد لوحظ تحرك أمني منظم يتضمن انتشار قوات مشتركة وتكثيف الحملات الأمنية، وفرض رقابة على مداخل المدن والأسواق، في محاولة لإعادة قبضة الدولة على المجال العام. هذا القرار يُعد إشارة سياسية مهمة، تُعطي المواطن السوداني مؤشراً بأن الدولة لا تزال قائمة، وأن الجيش يسعى لاستعادة السيطرة وتوفير الحد الأدنى من الأمان لحياة المواطنين وممتلكاتهم.

🔹لكن أي خطة أمنية مهما كانت قوتها لن تنجح ما لم يتم دعمها بثلاثة عناصر أساسية.

♦️أولاً
ينبغي أن تكون هناك إرادة سياسية واضحة لفرض القانون على الجميع دون استثناء، وألا يتحول هذا القرار إلى مجرد حملة إعلامية مؤقتة، بل أن يكون بداية فعلية لاستعادة هيبة الدولة، وتفكيك كافة المليشيات والمجموعات المتفلتة، بما في ذلك تلك التي تتستر خلف شعارات سياسية أو عرقية.

♦️ثانيًا
لا يمكن أن تكون المعركة ضد الفوضى أمنية فقط، فالمجتمع بحاجة إلى الانخراط في جهود إعادة البناء عبر مبادرات شعبية لمحاربة خطاب الكراهية والعنصرية الذي انتشر في أوساط الشباب وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. ويجب أن تقوم القوى المدنية، ولجان المقاومة، والجاليات السودانية في الخارج، بدور تعبوي وإعلامي توعوي يعزز من ثقافة السلام وقيم التعايش.

♦️ثالثًا
لا بد من إطلاق منصات إعلامية وطنية حقيقية تدحض الشائعات، وتدير خطابًا متماسكًا ضد العنف والتمييز، خاصة بعد أن تحولت بعض وسائل التواصل إلى ساحات لتأجيج الأزمات العرقية، والدعوات الانتقامية، ونشر المعلومات المضللة.

🔹ولا يمكن أن يتحقق استقرار أمني دون تفكيك اقتصاد الحرب الذي نشأ خلال العامين الماضيين، والذي أصبح يُغذي الجريمة والتمرد في آنٍ واحد. ينبغي ضبط الأسواق، ومراقبة حركة الأموال، ومنع تهريب الوقود والذهب والسلاح، إذ أن الاستقرار الأمني لا ينفصل عن الاستقرار الاقتصادي.

🔹إن قرار ضبط الأمن ليس فقط مسألة أمنية، بل هو اختبار لمفهوم الدولة السودانية ما بعد الحرب. فإذا تم تنفيذه بشكل احترافي ومتكامل مع مبادرات المجتمع المدني والإعلام والإدارة المحلية، فقد يكون بداية حقيقية نحو استعادة الدولة لسلطتها وبناء عقد اجتماعي جديد قائم على القانون والعدالة. لكن إن لم تُرافقه خطة سياسية واضحة لتوحيد السلاح، وإطلاق حوار وطني شامل، ومحاسبة مرتكبي الجرائم، فسيظل القرار مجرد حملة مؤقتة سرعان ما تخبو في وجه الفوضى المتجددة.

🔹السودانيون اليوم، في الداخل والخارج، أمام لحظة تاريخية تتطلب الاصطفاف خلف مشروع وطني شامل، لا خلف شخص أو مؤسسة أو قبيلة. والخرطوم، برمزيتها وتاريخها، يمكن أن تكون نقطة البداية.

مقالات ذات صلة