*آبي أحمد.. وهم الزعامة وصرير الارتباك* د. ياسر محجوب الحسين*

لم يعد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام — وما أدراك ما اختلال معايير اختيار حاصليها — ذلك الوجه اللامع في السياسة الأفريقية كما بدا عند صعوده. فالرجل الذي قدّم نفسه، وقُدِّم للعالم، بوصفه مصلحا وصانع سلام، بات اليوم يراكم سياسات خارجية تتسم بالارتباك، وتكشف عن قلة خبرة وضيق في الأفق الاستراتيجي، لاسيما عند مقارنته بسلفه الراحل ملس زيناوي، الذي عرف كيف ينسج خيوط إثيوبيا مع محيطها الإقليمي والدولي بدهاء ومهارة. أما آبي، فقد اختار طريق الفرقعات الإعلامية بدلا من ترسيخ إنجازات حقيقية على الأرض.

أحدث تجليات هذا الارتباك تمثلت في زيارة مدير المخابرات الإثيوبي رضوان حسين، إلى مدينة بورتسودان مؤخرا، حيث التقى رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان. وحسب ما كشفته دورية “أفريكا إنتلجنس”، فإن الزيارة جاءت حاملة رسالة تطلب من السودان اتخاذ موقف الحياد في حال اندلاع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا من جهة، وإريتريا وجبهة تحرير تيغراي من جهة أخرى.

لكن ما وراء هذا الطلب يكشف حجم المأزق الذي وجد آبي أحمد نفسه فيه. فالرجل – كما أفاد المحلل الأمريكي المختص بشؤون القرن الأفريقي كاميرون هدسون – ألمح مهددا باستخدم الأراضي السودانية كنقطة انطلاق لعمل عسكري ضد إريتريا. ورغم أن آبي حاول التراجع لاحقا عن هذا التلميح، إلا أن الضرر وقع، وفضح نواياه بطريقة لا تحتمل اللبس، خاصة في ظل المناوشات المتكررة التي تشهدها منطقة الفشقة السودانية التي طالما لم تستطع اثيوبيا اخفاء اطماعها فيها.

لم يكن الهدف من زيارة المسؤول الإثيوبي إلى بورتسودان مجرد طمأنة الخرطوم، بل ربما محاولة لامتصاص الغضب السوداني وتخفيف تبعات تهديدات آبي غير المباشرة. وقد فُسِّر البرود السوداني في التعامل مع المسؤول الإثيوبي الرفيع كدلالة على عدم رضا وارتياح السودان لسياسات آبي أحمد.

ورطة آبي أحمد ليست محصورة في ملف إريتريا فقط، بل تتسع لتشمل شبكة من الإخفاقات في سياساته تجاه جيرانه. فهو يدعم سياسيا وعبر قنوات غير رسمية تمرد مليشيا الدعم السريع، من خلال استضافة قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي” في أديس أبابا، وتهيئة الظروف للقاء سياسي جمعه مع رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، ما أدى لتوقيع اتفاق دعم لتحالف “صمود” الذي يمثل غطاءا سياسيا للتمرد.

كل ذلك، بالإضافة إلى المواقف المتصلبة التي تتبناها أديس أبابا في ملف سد النهضة – الذي أعلنت إثيوبيا عن تدشينه رسميا في سبتمبر 2025 رغم اعتراضات الخرطوم – يزيد من تآكل رصيد آبي في محيطه. وهو الآن أمام واقع يتمثل في حلف إقليمي يطوّق بلاده: مصر وإريتريا والصومال، مقابل إثيوبيا التي تبدو معزولة ومرتبكة.

في ظل هذا التوتر، تبرز مطالب سودانية مشروعة تجاه إثيوبيا، في مقدمتها: وقف دعم ما يسمى بتحالف “صمود” ورفع اليد عن تغذية التمرد داخل السودان، والتعامل مع قضية الفشقة على اساس احترام السيادة السودانية على اراضيه، وأخيرا، تبني مواقف مسؤولة بشأن ملف سد النهضة تحفظ مصالح السودان ولا تستند فقط إلى فرض الأمر الواقع.

ومن هذا المنطلق، فإن من مصلحة السودان أن يتبنى حيادا إيجابيا لا حيادا سلبيا كما يحب آبي أحمد، ويتجلى في اتخاذ موقف إقليمي متوازن يرفض استخدام أراضيه كمنصة لصراع الآخرين، ويعزز من حضوره الدبلوماسي والعسكري في حدوده الشرقية، مع مراقبة النشاط الأثيوبي غير المشروع في الفشقة. فالسودان اليوم لا يملك ترف الغياب أو التراخي، بل عليه أن يتحرك كفاعل يوازن بين حماية مصالحه وتفادي الانجرار لمحاور الحرب.

باختصار، يقف آبي أحمد اليوم في نقطة حرجة: سياسات متهورة، وعلاقات مضطربة، وخيارات تضيق أمامه يوما بعد يوم. وبينما كان يحاول التلويح بالقوة، وُضِع في موضع من يبحث عن ضمانات حياد من جارٍ صبر عليه كثيرا. إنها مفارقة تكشف أن الرجل، في نهاية المطاف، لا يقود بلاده إلى صدارة المنطقة بل إلى حافة العزلة.
03/08/2025
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب سلسلة (أمواج ناعمة): https://shorturl.at/YcqOh

مقالات ذات صلة