يسرّني أن أزفّ التهنئة للباحث الشاب بشير أبوسن على صدور المجلّد الأوّل من الأعمال الكاملة لجمال محمد أحمد (1915–1986). وبشير كاتب وباحث ومترجم برز اسمه في السنوات الأخيرة من خلال أعماله الأدبية، وإشرافه على إعادة نشر بعض أعمال رموز الفكر السوداني. وقد تولّى مؤخرًا تحرير وإخراج الأعمال الكاملة لجمال محمد أحمد، مضيفًا إليها حواشٍ تحريرية وتوضيحات تعرّف بالسياق التاريخي والثقافي للنصوص.
وفي تبصرته عن المجلّد الأول كتب بشير:
(2)
“هذا هو الـمجلَّدُ الأولُ من الأعمال الكاملة للأستاذ جمال محمد أحمد، نقرأ فيه قدْرًا عظيمًا من خُـلاصاتِ متابعته للحركات الفكرية في إفريقيا، وتأمُّلاتِه الوضعَ الأدبيَّ والاجتماعيَّ المعاصر فيها، إذْ ذاع صيتُ جمال بدراسَتِه نصوصًا أدبيَّةً تُعدُّ اليومَ من عيون الأدب الإفريقي، ناقدًا أدبيًّا وباحثًا مفكرًا يتنقَّلُ بقارئه بين تاريخ إفريقيا القديم والمعاصر، ومكانتـها في الحضارة الإنسانية، متوقِّفًا عند لقائـها بأوربا وما تبعه من آثار على المجتمع الإفريقي. وقد عُرفَ جمال أيضًا باهتمامه العميق بالصِّلات العربية الإفريقية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وهو مجلَّدٌ يحوي أربعةَ كتبٍ تعالج شؤونًا عدة، ولكنَّـها تبدو عند إمعان النظر وكأنها كتابٌ واحد، هي: مطالعات في الشؤون الإفريقية (1969)، في المسرحية الإفريقية (1973)، وجدان إفريقيا (1974)، عرب وأفارقة (1978). تعكس هذه المؤلَّفاتُ الأربعةُ الاجتهادَ الفكريَّ الواسع لجمال، وتعرِضُ إسهاماتٍ أصيلةً في عددٍ من المعارف، جاءت محمولةً بلغةٍ فريدةٍ خاصةٍ مُعتنى بها، وعبر مناهج مُنفتِحةٍ لدراسة مواضيع يلتقي فيها الأدب المقارن وعلم الاجتماع والتاريخ المعاصر والفكر السياسيّ ودراسات الهوية والخواطر الذاتية وغير ذلك.”
(3)
حواشٍ على المتون
في تعليقي على تبصرة بشير يمكنني القول إن المجلّد الأول من الأعمال الكاملة لجمال محمد أحمد يعيد إلى الواجهة واحدًا من أبرز الأصوات السودانية التي جمعت بين الأدب والفكر السياسي والعمل الدبلوماسي. وقد اختار بشير في هذا المجلّد أربع مختارات من أدبيات جمال بينها وشائج قربى، هي: مطالعات في الشؤون الإفريقية (1969)، في المسرحية الإفريقية (1973)، وجدان إفريقيا (1974)، عرب وأفارقة (1978). وتُظهر هذه المؤلفات مجتمعةً عمق اهتمام جمال بالمسألة الإفريقية وبعلاقات العرب بأفريقيا في أبعادها التاريخية والثقافية والسياسية.
وعلى الرغم من أنها نُشرت متفرّقة، فإن جمعها في هذا المجلّد الأنيق يعكس مشروعًا معرفيًا متكاملًا. وتبرز متون هذه المختارات الأربع خصوصية لغة جمال، التي عُرفت بالوصل بين الأناقة البلاغية والدقة الأكاديمية، وبالقدرة على المزاوجة بين التحليل الأدبي والرؤية السياسية والاجتماعية، فضلًا عن انفتاحه على مناهج متعددة مكّنته من تقديم مقاربات شاملة عن الأدب والفكر الإفريقيين في فضاء اللغة العربية.
يشير المجلّد أيضًا إلى سيرة جمال أثناء سنوات دراسته بجامعة الخرطوم وإقامته في إنجلترا، ثم أدائه الوظيفي سفيرًا ووزيرًا، وهو ما يضع منتجه الأدبي في سياق خبراته العملية وموقعه من الحركة الوطنية السودانية. كما يبرز دوره في تأسيس “أدب المهاجر” السوداني، وتجارب التجسير بين الأدب والسياسة في زمن ما بعد الاستقلال.
حقًا، إن مشروع الأعمال الكاملة لجمال محمد أحمد، الذي تصدّى له الشاب بشير أبوسن، يمثّل خطوة توثيقية ومعرفية كبيرة. فهو لا يحافظ فقط على إرث جمال، بل يتيح للأجيال الجديدة إعادة قراءة فكره في ضوء تحديات الراهن الإفريقي والعربي (قضايا الهوية، علاقة المركز بالهامش، موقع إفريقيا في العالم المعاصر). ومن شأن ذلك أن ينعش الدراسات السودانية والإفريقية، ويعيد الاعتبار لشخصية كانت في قلب صناعة القرار السوداني وفي قلب الحركة الثقافية.
وإلى جانب متون مؤلفات جمال البديعة، أضاف أبوسن حواشٍ مضيئة حول أثر جمال على أجيال الكتّاب السودانيين والأفارقة، وعلاقته بالجيل المؤسس للأدب السوداني الحديث (مثل الطيب صالح). كما يُستحسن أن يُربط هذا المشروع التوثيقي بالسياق الأوسع لحركة جمع الأعمال الكاملة للمفكرين السودانيين، بما يعكس حرصًا على صون الذاكرة الثقافية الوطنية.