تحقيق ــ محمد غلامابي
نشر عضو المجلس التربوي لمدرسة ود الجمل بريف المناقل في ولاية الجزيرة وسط السودان، مقطع فيديو في يوليو الماضي، تحدث خلاله عن الأموال التي يدفعها الأهالي فيما يُعرف بالمساهمة الشعبية والرسوم المفروضة على تلاميذ المدارس وغياب الرقابة الحكومية.
حديث العضو صديق سليمان، الذي تسبب في إيقافه عن العمل، أشار بوضوح إلى شبهات فساد في مدارس السودان التي تُدار بواسطة مكاتب تتبع للحكومات المحلية، فيما يقتصر دور وزارة التربية والتعليم على تعيين المعلمين ووضع امتحانات الشهادة الثانوية التي لا تزال تُنظم قوميًا.
ورغم أن هذا التحقيق يتقصى عن فساد الرسوم في مدارس ريفي الهدى، إلا أنه يمكن تعميمه على جميع المناطق التي تُديرها الحكومة المركزية في وسط وشمال وشرق السودان، حيث تتحمل المجتمعات المحلية وآباء التلاميذ معظم تكاليف التعليم الحكومي دون أن يحدث ذلك بطريقة محاسبية واضحة مع غياب كامل للرقابة.
مبالغ هائلة
تتبع قرية ود الجمل المغاربة، الواقعة على بعد 80 كيلومترًا من مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، إلى وحدة الهدى الإدارية التابعة لمحلية المناقل، حيث يعتمد معظم سكان القرية، البالغ عددهم 7 آلاف نسمة تقريبًا، على الزراعة.
يشرف مكتب التعليم في وحدة الهدى على 51 مدرسة ابتدائية ومتوسطة، من بينها ثلاث مدارس في قرية ود الجمل، بعدد تلاميذ يصل إلى 773 تلميذًا، منهم 360 تلميذة في المدرسة الابتدائية الخاصة بالبنات، و302 تلميذًا في المدرسة الابتدائية الخاصة بالبنين، فيما البقية يدرسون في المدرسة المتوسطة.
تأسست المدرسة الابتدائية في قرية ود الجمل في 1977 كمدرسة مختلطة، قبل أن تنقسم إلى مدرستين إحداهما للبنين والأخرى للبنات، فيما أنشأ الأهالي المدرسة المتوسطة في 2020، حيث تقع فصول المرحلتين في مقر واحد تحت إدارة واحدة.
يدفع كل تلاميذ الصف السادس، البالغ عددهم 50 تلميذًا على الأقل، مبلغ 500 ألف جنيه رسوم امتحانات، بواقع 10 آلاف جنيه من كل تلميذ، بينما تكلفة طباعة وتصوير الامتحانات لا تتعدى 240 ألف جنيه، بما يعني أن هناك فائض أموال يصل إلى 260 ألف جنيه لا يُعرف أحد أين صُرفت؟
قد يكون هذا المبلغ قليلاً، لكن نظرًا إلى عدد المدارس التي تبلغ 51 مدرسة نجد أن الأموال التي تُحصل تصل إلى 13 مليونًا و260 ألف جنيه، يُضاف لها المتحصل من المساهمة الشعبية التي فرضها مكتب التعليم بالهدى بما يزيد عن 9 ملايين جنيه.
وحصلت مدرسة ود الجمل مبلغ 1000 جنيه بدلاً عن 500 جنيه كرسوم لإعلان نتيجة امتحانات الفترة الأولى، لنجد في خاتمة المطاف أنها حصلت على 773 ألف جنيه، وهذه المبالغ حُصلت من مدرسة واحدة من مجموع 51 مدرسة في وحدة الهدى الإدارية، التي تعد الوحدة الإدارية السادسة في محلية المناقل.
دفاع .. ولكن؟
ورغم أن المبالغ المفصلة أعلاه تعد فسادًا واضحًا يُؤخذ من التلاميذ دون مستندات رسمية، إلا أن مديرة المدرسة نجاة قسم الله بابكر دافعت عن الرسوم المفروضة على التعليم والامتحانات، وقالت إنها فُرضت من إدارة التعليم في ولاية الجزيرة بواقع 4 و6 و9 آلاف جنيه على المستويات التعليمية المختلفة، لكن إدارة المدرسة أضافت 100 جنيه على كل فئة كما رفعت رسوم زيادة إعلان نتيجة امتحانات الفترة الأولى إلى 100 جنيه.
ذكرت نجاة أن زيادة الرسوم الدراسية وعلى الامتحانات أقرها مشرف التعليم بوحدة الهدى الإدارية لتغطية الأعباء الإدارية، بينما رفض المجلس التربوي هذه الزيادات، مما دعا مديرة المدرسة إلى وصف العلاقة بينهما بأنها “غير صحية”.
ورغم أن مديرة المدرسة طردت التلاميذ في 8 يوليو السابق بسبب انعدام الطباشير، إلا أنها حملت مسؤولية ذلك إلى المجلس التربوي الذي قالت إنه فشل في الوفاء بالتزاماته في تشييد الفصول الدراسية وتسيير المدرسة وعدم دفع رواتب المعلمات المتعاونات، مشيرة إلى أنهن تلقين جزءًا من أجورهن عن يونيو في 9 يوليو.
يحاجج عضو المجلس التربوي لمدرسة ود الجمل أبو القاسم يوسف بأن فرض الرسوم، في ظل غياب المجالس التشريعية في المركز والولايات، يكون من سلطة الوزير المعني أو من يفوضه، مما يعني أن رسوم الامتحانات يجب أن تُفرض بقرار وزاري أو منشور رسمي من مكتب التعليم.
وأوضح أن الجهة ــ المجهولة ــ التي فرضت رسوم الامتحانات لم تُشاور المجالس التشريعية، كما أننا نصر على أن هذه الرسوم يجب أن تُفرض وفق التكلفة الحقيقية وليس زيادتها لتشمل تنظيم العمل الإداري.
رفض واسع
ويعترض أبو القاسم يوسف على الربط الذي وضعه مكتب التعليم بالهدى على المساهمة الشعبية، مشددًا على أن الأموال التي تُجمع شعبيًا تُصرف على تسيير المدرسة وبناء الفصول ودفع رواتب المتعاونين، وهذه أمور ينبغي أن يتكفل بها مكتب التعليم والحكومة المحلية في المناقل لكنهما لا يفعلان ذلك.
وبين أن الأموال الخاصة بتسيير مؤسسات الدولة تدفعها وزارة المالية، وتساءل: “بأي وجه حق تطلب مكاتب إشراف التعليم والمحلية أموال المساهمة الشعبية المخصصة لتسيير المجال؟ وكيف تجرؤ إدارات المدارس على حرمان تلميذًا من الجلوس للامتحانات، وتقوم بطرده، رغم أن وزارة التربية والتعليم تمنع حرمان أي طالب أو تلميذ من الجلوس للامتحانات بسبب الرسوم”.
ويوضح عضو المجلس التربوي محمد الطاهر محمد علي أن المجلس خصص لإدارة المدرسة 9 ملايين لتسييرها بناءً على طلبها، حيث قام بأخذ هذا المبلغ من أولياء الأمور بما يُعرف بالمساهمة الشعبية، قبل أن تطلب مكاتب الإشراف لاحقًا بعض هذا المال دون وجه حق.
ويشير إلى أن المجلس لم يرفض تحصيل رسوم الامتحانات، لكنه يشدد على ضرورة تحصيلها وفق التكلفة الفعلية، منتقدًا قرار المدرسة الخاص بطرد التلاميذ لعدم توفير المجلس التربوي الطباشير.
ويضيف: “مسألة الطباشير كانت هدفًا مقصودًا ومدبرًا لوصم المجلس التربوي بالفشل في توفير أدنى المتطلبات، والحق أن الأمر هو إدانة لإدارة التعليم بالولاية التي حملنا عنها كل شيء، حتى الطباشير، فإذا هي كإدارة للتعليم فشلت في توفير المعلمين، والكتب، والكراسات، وكل تسيير مدارسها، كيف تلومنا على فشلنا يومًا في توفير الطباشير، ولا تنظر إلى فشلها هي”.
ويذكر محمد الطاهر بأن إدارة التعليم طلبت فرض رسوم تصل إلى 4 آلاف جنيه من كل تلميذ في المرحلة الابتدائية و3 آلاف جنيه من كل تلميذ في المرحلة المتوسطة، يُعطى لها على أساس أنه مال المساهمة الشعبية، رغم تأكيدنا على أن هذه المبالغ لا يستطيع الأهالي توفيرها.
ويقول إن المكتب التربوي أعطى 500 ألف إلى مكتب التعليم في الهدى، رغم أن مشرف التعليم بمحلية المناقل أعفى المدرسة من نسبة المساهمة الشعبية بعد أن دمرت قوات الدعم السريع خلال سيطرتها على ولاية الجزيرة سبل العيش في القرية ونهبت ممتلكات المواطنين.
ويتابع: “مشرف التعليم بالهدى رفض قرار مشرف التعليم، كما رفض تخفيض المبلغ مطالبًا بدفع المبلغ كاملًا، الأمر الذي أدخلنا وإدارة المدرسة في ورطة حقيقية الآن، ولا نعرف كيف نخرج منها”.
إصرار على أخذ الأموال
يقع مكتب التعليم بوحدة الهدى الإدارية، والذي يشرف عليه صلاح النعمة الحسن، في قوته، ويضم 18 موظفًا منهم 14 موجهًا تربويًا ومساعدان إداريان وعاملان، حيث تتمثل مهامه في التنسيق بين مدارس الوحدة ومحلية المناقل وولاية الجزيرة.
يقول صلاح النعمة إن المكتب يعتمد في تسييره على مال المساهمة الشعبية التي تأتي من المدارس، وهي محددة بواقع 3 آلاف جنيه تُفرض على كل تلميذ في الصف الأول في المرحلة الابتدائية، وألفان جنيه من كل تلميذ في بقية صفوف هذه المرحلة والمرحلة المتوسطة.
ويشير إلى أن رسوم الامتحانات فرضتها إدارة التعليم في ولاية الجزيرة بواقع 4 آلاف للصف الأول والثاني، و5 آلاف للصف الثالث، و6 آلاف للصف الرابع، و8 آلاف للصف الخامس، و9 آلاف لصفوف المرحلة المتوسطة، مشددًا على أن إدارات المدارس تملك سلطة فرض رسوم إضافية لتسييرها، كما ذكر أنها لا تملك حق حرمان التلاميذ من التعليم بسبب دفع الرسوم.
ويؤكد مشرف التعليم بمحلية المناقل عبد الرحمن أبو إدريس، الذي تحدث بنبرة غاضبة وهجومية، على أن وزارة التربية والتعليم فرضت رسوم الامتحانات على محليات ولاية الجزيرة.
وعلق على المال المستقطع من المساهمة الشعبية لصالح إدارات التعليم بقوله إن المجالس التربوية تعهدت بدفع 4 ملايين جنيه عن كل مدرسة، مشددًا على أن إدارات المدارس تملك تقدير رسوم الامتحانات وتحصيلها.
ورفض مدير عام التعليم والوزير المكلف في ولاية الجزيرة عبد الله أبو الكرام الرد على سؤالنا حول الرسوم التي تفرضها المدارس.
يوضح التحقيق أن الأهالي ينوبون عن الدولة في كل شيء يتعلق بالتعليم في الولاية، بداية بتشييد الفصول، وسد النقص الحاد في المعلمين، وتسيير عمل المدارس المختلفة وعمل مكاتب الإشراف، حيث اقتصر دور الحكومة على دفع رواتب المعلمين فقط.
وتدفع الحكومة رواتب 330 معلمًا في وحدة الهدى الإدارية، بينما يتكفل الأهالي بدفع رواتب 440 معلمًا متعاونًا، وهذا يعني أن المجتمع المحلي يصرف رواتب لعدد معلمين أكثر من الذي تدفعه الدولة.
وفي خاتمة المطاف يصبح السؤال: من يملك الرقابة الفعلية على الأموال التي يدفعها الأهالي لتسيير مدارس أبنائهم؟ وبينما تتحمل المجتمعات المحلية العبء المالي بالكامل، تظل الدولة بعيدة عن محاسبة تلك المبالغ أو تنظيمها وفق معايير واضحة.
إن يحدث في قرية ود الجمل ليس استثناءً، بل نموذج يمثل واقع التعليم الحكومي في الجزيرة، حيث تتداخل الفوضى الإدارية والفساد المالي مع غياب الرقابة المركزية، ليصبح الأهالي هم ضحايا النظام التعليمي، يدفعون أموالهم بلا ضمانات ولا شفافية.