ليس مشهدًا عابرًا.
ليس فيديو عاديًا.
إنه وصمة تاريخية، لطخة عار على جبين المليشيا، وعلى جبين كل يد شاركت في تحويل الطفولة إلى مشروع ثأر.
طفلٌ لم يتجاوز عمره عمر الألعاب والدفاتر، يقفز كالشيطان الصغير فوق رجلٍ منكسر، رجلٍ في عمر والده أو أكبر، رجل لم يشتمه ولم يضربه ولم يمسّه بسوء، بل كل ما فعله أنه أصبح في لحظة خاطئة أمام جماعة لا تؤمن بشيء اسمه الإنسانية.
الطفل يركل.
الطفل يهين.
الطفل يصيح: “فلنقاي”.
والطفل يتخيّل نفسه رجلًا.
ويا للمهزلة…
يا للكارثة الأخلاقية التي لم تعرفها أرض دارفور حتى في أقسى لحظات التاريخ.
أي تربية هذه؟
أي مدرسة شيطانية صاغت هذا الجيل؟
كيف صار الطفل يتعلّم الانقضاض على الكبار قبل أن يتعلّم معنى الاحترام؟
كيف صارت أول جملة يتقنها ليست “السلام عليكم” بل “اضربوه”؟
كيف صار أول درس في حياته ليس حفظ سورة الفاتحة… بل حفظ خطوات الإذلال؟
والأشد سوءًا…
أن هناك رجالًا كبارًا — أو هكذا يُفترض أنهم رجال — يقفون حول المشهد.
أحدهم يشجع، وآخر يضحك، وثالث يصور، وكأن ما يحدث ليس جريمة تربوية، بل عرضًا بطوليًا.
رجل كبير، في مقام أب الطفل، يقف متحملًا الركل والإهانة، بينما رجال المليشيا يشاهدون ويباركون.
طفلٌ تُرك ليكتشف لذة السلطة فوق جسد رجل أعزل.
طفلٌ تعلم أن العنف بطولة، وأن الإهانة رجولة، وأن إذلال الآخرين وسيلة للانتماء.
هذه ليست تربية.
هذه جريمة.
هذه فتنة.
هذه صناعة وحوش صغيرة ستنقلب عليكم يومًا كما تنقلب النار على مستوقدها.
أين القرآن؟
أين الدين؟
أين الأخلاق؟
أين قول الله تعالى:
﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا
أين ذهب؟
كيف يتجرأ طفلٌ على ضرب رجلٍ في عمر والده، بينما الله يأمرنا بالرحمة والتوقير والانحناء احترامًا؟
أين قوله تعالى:
﴿ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى﴾؟
فلماذا تحملون هذا الرجل ذنبًا لم يرتكبه؟ لماذا تسحقونه أمام طفل سيكبر وهو يحمل لعنة ما فعل؟
أين قوله عز وجل:
﴿إن ربك لبالمرصاد﴾؟
هل ظننتهم أن الله غافل؟
هل خُيّل للمليشيا أنها أقوى من عدالة السماء؟
هل صدّقوا أن سلطتهم فوق الأرض تمنحهم حصانة فوق الحساب؟
يا مليشيا الدم…
لقد أغلقتم كل أبواب العفو،
كل نوافذ الصفح،
كل خطوط العودة.
أهل الفاشر شاهدون.
أطفال المخيمات شاهدون.
كل رجل ضُرب، كل امرأة صرخت، كل شيخ أُهين، كل طفل فقد قلبه شاهد.
ستأتي لحظة — ولو بعد حين — تضيق الأرض عليكم بما رحبت.
ستفترسكم أيامكم السوداء التي صنعتموها بأيديكم.
وستأتون راكعين تبحثون عمّن يغفر لكم.
لكنكم ستسمعون الجملة نفسها التي علمتم أطفالكم أن يقولوها لضحاياكم:
لا صفح.
لا رحمة.
لا إنسانية.
لن يعطيكم من ظلمتموهم العفو الذي مزقتموه بأفعالكم.
لن يفتح لكم أحد بابًا أغلقتموه بأنفسكم.
ولن تجدوا في الطريق إلا ذلك “الثأر” الذي زرعتموه في صدور الناس يوم كنتم أقوياء،
سيعود ليقف فوق رؤوسكم يوم تصبحون ضعفاء.
وكما علمتم الطفل الركل…
سيأتي يوم يركلكم فيه الزمن والعدل والناس والسماء معًا.
فالذي يزرع طفلًا مسمومًا،
يحصد رجلًا لا يعرف إلا الغدر.
المليشيا لم تفسد حياة التحقيقات فقط…
بل أفسدتالأجيال.
أفسدت الطفولة.
أفسدت فكرة الرجولة نفسها.
فصار الطفل يظن أن السلاح لعبة، وأن الرجال أهداف، وأن الدم طبيعي، وأن الضرب بطولة.
لكن الحقيقة؟
أن هذا الطفل العاق…
سيكبر ليبحث عن نفسه… فلا يجد شيئًا سوى عار تربيتكم.
الفاشر لن تنسى.
دارفور لن تنسى.
والله… لن ينسى.




