بفتكر جهاز الأمن، أو أي جهة سمينة بالوهم وفارغة من الشجاعة، لسه مصدّقة إن الصحفي ممكن يخاف…
لسه عايزين يصدقوا إن تهديد تافه مكتوب في منتصف الليل على ورقة مرتجفة ممكن يوقف قلم عاش ومات في وجه الرصاص.
لسه عايشين في خرافة إن الصحفي بيتراجع… بينما الحقيقة إن الصحفي هو المخلوق الوحيد الذي لما تضغط عليه… يتحول لوحش.
ما عارفين إن الصحفي اللي كتب في زمن كانت فيه الجثث تُرمى في الشوارع… ما بخاف من موظف يختبئ خلف مكتب حكومي وينفّذ أوامر جلاد أوقح منه.
ما عارفين إن الصحفي اللي شاف الموت يمرق قدامه وهو لابس كاكي رسمي… ما بترعبه ورقة تهديد.
أي جهاز أمن هذا الذي يظن أن الصحفي يمكن أن يتوقف؟!
الصحفي حين يُهان… يتحول إلى سيف.
حين يُلاحَق… يتحول إلى محكمة.
حين يُعتقل… يتحول إلى عاصفة.
وحين يُهدَّد… يتحول إلى زلزال يشقّ صدوركم قبل جدرانكم.
الصحفي ليس تابعًا للدولة… الصحفي هو الشريان الذي يكشف فسادها، والسكين الذي يقطع يدها حين تمتد للناس.
والمرآة التي تكسر وجهها القبيح كلما حاولت أن تخفيه بالقوانين والبيانات.
الصحفي لا يخاف… لأنه يعيش الخوف يوميًا حتى صار جزءًا من جلده.
يمشي وهو يعرف أن كل دقيقة ممكن تكون الأخيرة.
يرجع للبيت وهو ما عارف إذا باب الليل بينفتح على نوم… ولا على اعتقال… ولا على موت.
ومع ذلك… يكتب.
يرفع صوته كأنه يصفع جدارية الدولة.
يضرب بالحقيقة وجوهًا تعتقد أن السلطة حصانة ضد الفضح.
الصحفي الذي يبتعد عن أسرته… لم يهرب
هو فقط اختار الحرب بدل أن يُدخلها بيته
في صحفيين تركوا أولادهم، زوجاتهم، أمان بيوتهم… مش لأنهم خافوا، لكن لأنهم رجال بما يكفي ليحموا من يحبون من دولة جاهزة لدهس طفل كي تسكت قلم أبيه.
ناموا في غرف ضيقة، في شقق بلا أبواب، في أماكن سرية… لأن وجودهم قرب أسرهم قد يجلب الخطر لهم.
ابتعادهم لم يكن انهزامًا… كان بطولة.
صمتهم لم يكن استسلامًا… كان إعادة شحن للمعركة.
اختفاؤهم لم يكن خوفًا… كان تكتيكًا لضرب أقوى.
أما الجلاد… فهو الذي يهرب.
وهو الذي يرتعد من عنوان.
وهو الذي يفزع من جملة واحدة تنسف سنوات من كذبه.
وهو الذي يختبئ وراء قوة لا تحميه إلا من الضوء لا من الحقيقة.
كيف يخاف الصحفي، وهو يقف على جماجم شهداء الكلمة؟
كيف يخاف وهو يرى زملاءه دُفنوا لأنهم كشفوا فساد حاكم؟
كيف يخاف وهو يرى من خُطف من الشارع لأنه فضح ميليشيا؟
كيف يخاف وهو يرى من أُحرق بيته لأنه كتب سطرًا واحدًا؟
كيف يخاف وهو يشاهد من اعتُقل لأنّه نشر شهادة ناجية اغتُصبت بيد الدولة؟
في بلد أصبحت فيه الحقيقة جريمة، والصمت مشاركة، أصبح الصحفي سلاحًا حيًّا… يمشي وحده لكنه أقوى من كتيبة كاملة.
الخوف ترف… والصحفيون لا يعرفون الترف.
الجبن خيانة… والصحافة لم تُخلق لتخون.
تهديد الصحفي… اعتراف ضمني بأنكم انهزمتم
كل تهديد هو صراخكم وأنتم تغرقون.
كل محاولة إسكات هي إعلان أن الحقيقة ضربتكم في مقتل.
كل مداهمة، كل اعتقال، كل مراقبة… هي وثيقة رسمية تقول:
أنتم خائفون.
وأنتم المرتجفون.
وأنتم الضعفاء أمام قلم واحد لا يملك إلا ضميره.
الصحفي يعرف أنه قد يُقتل… لكنه يعرف أن السكوت موت أقذر.
لذلك يكتب.
يفضح.
يشتعل.
ويضع الحقيقة في وجه الدولة كأنها قنبلة لا يمكن نزع فتيلها.
هذا الصحفي لا يخاف…
وهذه الدولة—بكل سلاحها وأمنها وجلّاديها—هي التي يجب أن ترتعب من الحقيقة التي تمشي على قدمين
الصحفي الذي يكتب في زمن الخيانة…
الذي يكتب وهو يعرف أن الحرف ممكن يكون آخر ما يكتبه…
الذي يبتعد عن أسرته ليحميهم من أنياب السلطة…
الذي يصرخ في وجه دولة تحاول أن تكمّم فم الناس بالدم…
هذا الصحفي لا يخاف.
ولا ينحني.
ولا يموت…
لأن الحقيقة التي يكتبها أطول عمرًا من كل طغيان.
أما الدولة، بكل آلات بطشها… فهي التي يجب أن تفهم جيدًا
أن الخوف الحقيقي
ليس خوف الصحفي من السلطة…
بل خوف السلطة من كلمة لا يمكن اغتيالها.
نجاسة الأمن ليست كلمة عابرة… هي وصفٌ دقيق لمؤسسة اغتسلت بالقمع، وتربّت على انتهاك الحرمات، واعتادت أن تجعل الإذلال منهجًا. نجاسة الأمن ليست سبّة، بل حقيقة مكتوبة بدم الضحايا: جهاز يرى في المواطن خصمًا، وفي الشرف ورقة ضغط، وفي الجسد ساحة انتقام. جهازٌ فقد أخلاقه يوم قرر أن الاغتصاب أداة، وأن الخوف سياسة، وأن كرامة الناس قابلة للدهس عند أول أمر يأتي من فوق.
نجاسة هذا الجهاز لا تأتي من أفراده كأشخاص، بل من العقل الذي يديره، من المدرسة التي ربّته، من التاريخ الأسود الذي صنعه، من ثقافة كاملة تقوم على التهديد والتعذيب والتستر على الجرائم. هو جهازٌ يختنق حين تُكشف جرائمه… ويرتعش حين تُفضح أساليبه… لأنه يعرف أن أقذر ما فيه لم يعد سرًا.
لهذا… يلاحق الصحفي. لهذا يكره الحقيقة. ولهذا ترتجف جدرانه من سطر واحد صادق، لأنه السطر الذي يعري نجاستهم أمام العالم




