*زيارة البنك الدولي للسودان… أهدافها الخفية والمرحلة المقبلة سامي النمر*

زيارة البنك الدولي للسودان في هذا التوقيت ليست زيارة بروتوكولية، ولا هي خطوة معزولة عن التعقيدات الجيوسياسية والاقتصادية المحيطة بالحرب. فالمؤسسات المالية الدولية — وعلى رأسها البنك الدولي — لا تتحرك نحو دولة غارقة في حرب أهلية إلا عندما تلوح مؤشرات لتحوّل سياسي أو اقتصادي كبير، أو عندما تريد هذه المؤسسات وضع موطئ قدم في مسار سيضعها لاحقًا في موقع قيادة لإعادة الإعمار والتحكم في السياسات الاقتصادية. بذلك تصبح الزيارة أداة سياسية بقدر ما هي أداة اقتصادية.

البنك الدولي ينظر إلى السودان كأحد أكبر الملفات غير المستقرة في الإقليم، وهي دولة تملك موارد ضخمة (زراعة، مياه، معادن، طاقة شمسية، ثروة حيوانية ضخمة، أراضٍ زراعية نادرة عالميًا) لكنها محطمة بفعل الحرب، مما يجعلها ساحة مفتوحة لإعادة الهيكلة. لذلك يأتي وفد البنك الدولي بهذه الأهداف: أولًا، تثبيت وجود مبكر في مرحلة ما بعد الحرب، حتى قبل أن تُحسم موازين القوى. ثانيًا، تقييم حجم الدمار الاقتصادي والمؤسسي لمعرفة شكل الفاتورة التي ستُعرض لاحقًا ضمن برامج إعادة الإعمار. وثالثًا، إرسال إشارة سياسية للمجتمع الدولي بأن السودان يدخل مرحلة جديدة تتطلب إدارة اقتصادية فوق وطنية، وهو أمر يعني أن القوى الداخلية لن تُترك وحدها لتحدد شكل المستقبل.

الزيارة ليست منفصلة عن مساعي واشنطن وحلفائها لإعادة ترتيب السودان اقتصاديًا وربطه بممرات إقليمية جديدة، بحيث تصبح البلاد جزءًا من هندسة اقتصادية كبرى تمتد من البحر الأحمر إلى القرن الأفريقي ومن الخليج إلى أفريقيا الوسطى. البنك الدولي في هذا السياق ليس مراقبًا، بل أحد الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة لتثبيت نموذج اقتصادي يعتمد على السوق، وتحرير الدعم، وإعادة هيكلة المؤسسات، وربط السودان بالمجتمع المالي الدولي وفق شروط جديدة. وهذا ينسجم مع الرؤية الأمريكية التي تحاول توجيه مخرجات الحرب بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

تسعى الزيارة أيضًا إلى قراءة التوازنات بين القوى السودانية على الأرض: من يسيطر على المؤسسات؟ من يمتلك القدرة على فرض خطة الاستقرار؟ ومن يمكن التعامل معه في المرحلة المقبلة؟ ولذلك فإن الوفد لا يذهب فقط لرؤية الخراب العمراني أو انهيار الخدمات، بل لقياس مستوى الجاهزية الإدارية للحكومة المقترحة، ومعرفة الجهات التي ستكون مسؤولة لاحقًا عن التوقيع على برامج الإصلاح. وبذلك تصبح الزيارة جزءًا من تقييم سياسي قبل أن تكون فنيّة.

المرحلة المقبلة المتوقعة بعد زيارة البنك الدولي ستكون مرحلة «تقدير الخسائر وإعادة هيكلة الدولة». سيُطرح برنامج اقتصادي ضخم يشمل: إعادة بناء المؤسسات المالية، إصلاح النظام المصرفي، توجيه الاستثمارات الأجنبية نحو قطاعات محددة يراها البنك الدولي مربحة ومستقرة مثل الزراعة والطاقة، وفرض مشروطيات تتعلق بتحرير الأسواق وتقليص دور الدولة. هذا يعكس رغبة واضحة في صياغة اقتصاد سوداني جديد يقوم على أقل تدخل حكومي وأكثر انفتاح خارجي، وهو نموذج أثبت تاريخيًا أنه ينقل القرار الوطني من الداخل إلى مؤسسات التمويل الدولية.

في السياق السوداني، تأتي هذه المرحلة وسط حرب مفتوحة وحالة انهيار سياسي، لذلك يحاول البنك الدولي تثبيت خطته من الآن لضمان أن أي حكومة مستقبلية — مدنية كانت أو انتقالية — ستجد نفسها ملزمة بمسار اقتصادي جرى تحديد خطوطه الأساسية مسبقًا. وهذا المسار قد يُستخدم بوصفه أداة ضغط للدفع نحو تسوية سياسية، لأن المؤسسات المالية لا يمكن أن تتعامل مع دولة بلا استقرار نسبي، مما قد يدفع القوى المحلية نحو اتفاق يضمن الحد الأدنى من وحدة الدولة.

خلاصة الأمر، زيارة البنك الدولي للسودان ليست مجرد خطوة اقتصادية، بل جزء من عملية سياسية واسعة تهدف إلى رسم ملامح الدولة السودانية بعد الحرب. إنها محاولة مبكرة لقيادة مرحلة إعادة الإعمار وتوجيه السياسات الاقتصادية، وربط السودان بشبكات التمويل الدولية تحت شروط محددة. وفي ظل واقع معقد ومفتوح على كل السيناريوهات، ستترك هذه الزيارة أثرًا مباشرًا على شكل التسوية المقبلة، وعلى مستقبل السيادة الاقتصادية للدولة السودانية، وعلى قدرة الشعب السوداني على التحكم في أولوياته الوطنية خلال عقد كامل قادم.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole