*فضيلي جماع: وطارت أنغام عبد القادر سالم: من السنجكاية إلى كوين أليزابث هول بلندن*

! ====== ======= في حوار صحفي مع الموسيقار السوداني العالمي حمزة علاء الدين ، أجاب على سؤال: من هو المطرب السوداني بنظرك الذي نقل الغناء والموسيقى السودانية إلى مصاف العالمية؟ أجاب علاء الدين : إنه الفنان عبد القادر سالم. فقد نقل أغنيات منطقته بأنماطها الموسيقية وإيقاعاتها المختلفة إلى رحاب العالمية!
عرفت عبد القادر سالم ردحاً من العمر. جمعت بيننا زمالة تقديم ما أطلق عليه إعلام الخرطوم (الأغنية الكردفانية) – تقديمها للمستمع على نطاق القطر. كنت في بداية دراستي الجامعية. لم تتخط علاقتنا – هو وأنا يومذكاك- طور التعاون بين شاعر غير مكثر في شعر العامية وفنان ذاع صيته آنذاك بين الناس. وبمرور الوقت رأيت في عبد القادر سالم ما لم يره كثيرون. رأيت فيه المطرب صاحب الرسالة. كم حمل مسجل (أوهير) ذا التسجيل المغناطيسي القوي ، وجاب بوادي كرفان الواسعة ليجلس إلى الحكامات مستمعاً لأنماط من الغناء. فيقوم بتسجيل ما لزم. لم يركن إلى تجربته كمطرب فحسب ، بل حمل إلى جانبها ذائقته التي دعمتها دراسته الأكاديمية للموسيقى في معهد الموسيقى والدراما. لذا فإن كثيراً من ألحانه النادرة لم تكن سوى موتيفات قصيرة ترددها البنات ويرقص الشبان إثرها على الإيقاع. ثم يأتي دور عبد القادر سالم في البحث عن نص شعري مناسب من حيث الكلمات والمعنى والإيقاع. وهذه صفة لا يتميز بها إلا مطرب ذكي يعرف كيف يقدم المادة الخام في طبق يستدر شهية المستمع. هنا التقينا – هو وشخصي الضعيف .. أن الإنسان – إنسان الهامش – صاحب الفضل في هذه الأغنيات والإيقاع النادر والمختلف هو من يجب أن نعمل جاهدين لتقديم صوته للآخرين. وطبعاً قطع عبد القادر شوطاً طويلاً في هذا المسعى عبر أبحاثه الأكاديمية الجادة عن التراث الشعبي في غرب السودان ، إلى أن توّج تلك الجهود بحصوله على درجة الدكتوراه في العام 2005م في مبحث بعنوان (الأنماط الغنائية في إقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها.)ذاك جزء من رحلة الطموح لمدرس الإبتدائية القادم من قرية مغمورة (السنجكاية) في جنوب كردفان، حيث لم يكتف بمعهد التربية الدلنج ، بل حمله صوته الشجي وإيقاعات المردوم والدرملي والجراري والتويا من إقليم كردفان إلى قلب عاصمة البلاد (معهد الموسيقى والمسرح)) عام 1970 .. طالباً ومطرباً ملء السمع والبصر.
في قاعة (كوين اليزابيث هول)على شط نهر الثيمز بقلب حاضرة الديار البريطانية لندن، قدم عبد القادر سالم وفرقته الموسيقية من ألوان الطرب والإيقاعات – وعلى رأسها المردومم والجراري ما أدهش الحضور البريطاني الكثيف للأمسية. كنت حضوراً لكني أترك التعليق للقانوني مولانا إسماعيل التاج في انطباع قصير كتبه عن تلك الأمسية، ختمه بقوله: (في الختام سألت إنكليزية عن رأيها في الحفل. قالت بكلمات قليلة ..على عادة الإنكليز في عدم الثرثرة: (((Wonderful, fantastic, unbelievable performance– ما ترجمته: أداء رائع ، ممتاز ، لم أصدق ما شاهدت!)
هل يعرف محبو غناء عبدالقادر سالم جانب الإنسان فيه؟ أدعي أن سنوات صداقتي به – وهي حصة من العمر غير قصيرة – أعطتني الفرصة لأعرف عبد القادر الإنسان عن كثب. ولعل هذا ما أمكن لصداقتنا وربطها بحبل متين حتى سبقني إلى دار الخلود صباح اليوم. وأظن من الإنصاف أن أذكر هنا أن وجود زوجة عظيمة -السيدة آسيا المكي – حفيدة العارف بالله إسماعيل الولي – إلى جانب زوجها عبد القادر سالم هو ما جعل صلته بأهله وبره بوالدته لها الرحمة ، ورعايته لاخواته وإخوته عملاً دائباً لا ينقطع. منزل عبد القادر سالم لا يخلو من الضيوف، وآسيا المكي لا تشكو ولا تتذمر. وعبد القادر يصل عائلات زملائه ممن غاب عائلهم أو مرض. ويقوم بالواجب. ولعله لو كان على قيد هذه الفانية وقرأ ما كتبت لوبخني أنا الذي لم أسمع منه كلمة نابية طوال عمر صداقتنا. كان محباً لزملائه: حمد الريح الذي استضافه في بيته بتوتي وهو الطالب بمعهد الموسيقى والمسرح، أبوعركي البخيت الذي حين سألته ذات مرة: هل ترى من زميل في الوسط الفني يصل زملاءه بالصورة التي أراك تقوم به يا عبد القادر؟ رد بسرعة: نعم .. أبوعركي البخيت! ثم أضاف: يا فضيلي إنت ما شفت عركي دا كان بخدم ويمارض جاره الفنان خليل اسماعيل لما اشتد المرض بخليل!
في رحلة شهيرة بعد عودتي للوطن عقب اندلاع ثورة ديسمبر، اصطحبت فيها نفراً كريماً من الإخوة والأخوات الصحافيين والأدباء. فاجأني عبد القادر سالم باتصال هاتفي بأنه علم بالرحلة إلى غرب كردفان. وسوف يصطحبنا بفرقته كاملة. ولعل زملاء الرحلة: ياسر العوض وخالد طه والمهل – وكنا جميعاً في سيارة لاندكروزر ضمن الكنفوي يذكرون جانب الطرفة النادرة والسخرية اللطيفة التي يمتاز بها الفنان الراحل ، ما جعل رحلتنا الشاقة من لقاوة إلى الفولة إلى بابنوسة إلى المجلد في طرق وعرة غير مسفلتة ممتعة. وما زالوا يذكرونها حتى اليوم.
وأختم بالوفاء الذي كان طبعا من طباع أخي وصديقي الراحل ملك المردوم عبد القادر سالم عبد القادر. حين اختتمنا تلك الرحلة الشهيرة لولاية غرب كردفان في العاشرة صباحاً بكبرى مدنها – المجلد كان استقبال أهلها لنا يفوق الوصف: فرسان على صهوات الخيل ، وطابور من السيارات. أصرت أسرة كاتب هذا المقال أن يكون تناول الضيوف للإفطار بالمنزل. ورغم أن (بيت المعتمد) هو نزل الضيافة في المدن الأربع الكبرى لبعثتنا كما قضى والي الولاية اللواء احمد عبد الله إلا إن إثنين من أعضاء البعثة: الدكتور عبد القادر سالم والاستاذ القاص حامد بدوي بشير قرر كل منهما من تلقاء نفسه أن يبقى فترة الضيافة القصيرة معي بمنزل الأسرة. سألت عبد القادر صباح اليوم التالي: عاجبك التعب دا ؟ والناس داخلة وطالعة من دغش الرحمن عشان يشوفوك ويتصوروا معاك!! أجابني بهدوء: ديل يا فضيلي هم سبب نجاحنا ! خجلت ولم أعقب. لأني بعد عودته في اليوم الثالث للخرطوم بقيت أسبوعاً لم اذق فيه طعم النوم من كثرة الزائرين من الأهل .. وكنت في قمة السعادة وأنا أسمع من آن لآخرر ترداد جملة: سلام عليكو.. الأستاذ موجود؟؟
هذا قليل من كثير جلست اليوم بعد رحيلك إلى دار البقاء لأعزي نفسي ومحبيك فيه. تقبلك الله في ملكوته الأعلى مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسنأولئك رفيقا. وجعل السكينة والطمأنينة والصبر في قلوب كل محبيك وفي قلب كل فرد من أفراد أسرتك الصغيرة المكلومة. وجعل البركة والخير في ذريتك من بعدك.

فضيلي جماع لندن 16 ديسمبر 2025.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole