ملخص
(واحدة من أكبر أغلاط نقده دولة 56 أنهم لم يفرقوا بين الجيل الوطني في مكابدته السياسة والروحية للوطن حتى استقل وبينه وهو على دست الحكم بعد الاستقلال. فحاكموه بما عرفوا عنه في الحكم لا في وعثاء مواجهة مبتكرة مع قوة غازية جاءت وكثيرهم طفلاً وصبر عليها وصابر حتى ردها من حيث جاءت وهو كهل لا يزال. وحين انتهوا إلى شيطنة هذا الجيل في سرديتهم التاريخية حق عليهم القول إنهم رموا الوليد مع ماء الغسيل).
عن أحمد خير المحامي ودكتور عبد الله عمر أبو شمة
ظل كثير منا كلما قدمت ذكرى استقلال السودان، التي تأتي في أول يناير القادم، لقيها بـ”عيد بأية حال عدت يا عيد” في شيء من السقم مما انتهى بعدها بنا الحال. ولربما لم يشفع لنا، والحرب العوان قائمة في البلد في يومنا، حتى هذا المقطع من المتنبي. فاتسع الفتق على الراتق. وانسحبت هذه السقامة من الاستقلال على صورتنا عن جيل الحركة الوطنية الذي حمل قضية التحرر من الاستعمار واسترداد الإرادة الوطنية. فسرة مشروع قوات “الدعم السريع” في يومنا هو القضاء على دولة 56 والجيل الوطني موضوع الحديث هنا هو خطيئتها الأولى بالطبع. فهو واضع الجغرافيا السياسية للسودان في رأيهم بمركزه القابض في خيلاء ثقافته العربية الإسلامية وهامشه المحروم الغبين.
و”الدعم السريع” مسبوق في الحط من مقام هذا الجيل. فأخذوا مؤونتهم منه بيسر من أدب المعارضين للحكومات العسكرية الثلاث من أحزاب المركز نفسه وقواه. فكان مبلغ حجتهم لمقاومة نظام الإنقاذ للإسلاميين (1989-2019)، ولا يزال، هي خطيئة ذلك الجيل الأولى كما تقدم. وبرع في هذا التبكيت للجيل قلم الدكتور منصور خالد المكثر شديد الأسر، قوي العارضة.
واحدة من أكبر أغلاط نقده دولة 56 أنهم لم يفرقوا بين الجيل في مكابدته السياسة والروحية للوطن حتى استقل وبينه وهو على دست الحكم بعد الاستقلال. فصح هنا عليهم القول إنهم رموا الوليد مع ماء الغسيل. فحاكموه بما عرفوا عنه في الحكم لا في وعثاء مواجهة مبتكرة مع قوة غازية جاءت وكثيرهم طفلاً وصبر عليها وصابر حتى ردها من حيث جاءت وهو كهل لا يزال.
فعرفوا مثلاً أحمد خير المحامي وزيراً مؤثراً للخارجية طوال ما كان نظام الفريق عبود (1958-1964) العسكري حتى زال بثورة أكتوبر. وحاكموه بما عرفوا عنه في الحكم لا وهو الحادي الغرد في ركب الاستقلال. فأحمد خير هو الذي اقترح في مدينة مدني في 1935 في محاضرة له بنادي الخريجين عنوانها “واجبنا السياسي بعد المعاهدة، 1936” قيام “مؤتمر خريجي المدارس” استثماراً لبند في تلك الاتفاقية بين بريطانيا ومصر، دولتا الحكم الثنائي، التزمت به الدولتان اعتبار مصالح السودانيين والمتعلمين في سياساتهما في السودان.
وكان ذلك ما نفذ منه أحمد خير لقيام مؤتمر للخريجين أسوة بالهند ليلعب دوراً قيادياً في الحركة الوطنية من سنة تأسيسه في 1938 إلى 1944، وليخرج من معطفه قادة العمل السياسي في الأحزاب والدولة بعد الاستقلال.
وكان أحمد خير ملء السمع الوطني. ليس من معتقل سياسي لم يؤازره في المحاكم. وصدر له في يومه كتابه “كفاح جيل” الذي لا يزال المرجع الأم الثاقب في تضاريس حركة جيله الحزبية والسياسية. وتلقفه من فرط أسره في وقته صبيان مولعون بالوطن. فقال كامل محجوب، القيادي لاحقاً بالحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي، إن “كفاح جيل” كان أول كتاب لخصه في جريدته الحائطية “الملخص” وهو صبي في المدرسة الوسطى.
وهذا الانقطاع من الخلف عن أثر هذا الجيل الذي أشرنا إليه فاش لولا كتابات هنا وهناك لعبدالعزيز حسن الصاوي وتاج السر عثمان وأحمد أب شوك ممن طالعتهم. فإذا أخذنا موضوع الدعوة لتحرر المرأة بدت لنا وكأنها بدأت في 1952 بالاتحاد النسائي الذي هو إحدى منظمات الحزب الشيوعي الجماهيرية التي أبلت بلاء حسناً في القضية. غير أن الاتحاد بدا منبتاً عن مناشئ الدعوة لتحرير المرأة في الحركة الوطنية. وممن خاض في الشأن الدكتور عبدالله عمر أبو شمة. فكان نشر في 1949 في مجلة “لانست” العلمية مقالاً عنوانه “الختان الفرعوني في السودان” عن أضرار هذا الختان الذي تخضع له البنات عندنا. ولم يستغرب كاتب منه تلك الشفقة، لو شئت، على النساء. فعاد إلى همة قديمة لأبو شمة في الاستنصار للمرأة عائدة للثلاثينيات.
فقد كان من بين كتاب مجلة “النهضة” في مبدأ الثلاثينيات التي توالت الكتابة فيها يوماً عن موضوع تحرير المرأة. واختلف فيها الدكتور الشاعر محمود حمدي مع والده الشيخ علي حمدي. فكان الوالد يكتب باسم “رجعي” ليجادل ابنه الذي دعا إلى تحرير المرأة.
واتسع الجدل عن المرأة وتحررها حتى وجه المحرر بالكف عن الخوض فيه. فكتب أبو شمة (المولود في 1908) قائلاً: “ليس موضوع المرأة بالشيء التافه الذي يريد محرر النهضة أن نكف الكلام عنه، أو نحوله إلى نقطة أخرى من مواضيع الحياة الكثيرة المتعددة. ويطالبنا المحرر أن نفكر في الرجل وتعليمه وثقافته وبعث الشعور القومي. ولكنني أريد أن أتساءل: كيف نقرر بكل ذلك إذا كان النصف الأهم عندنا مشلولاً. لا يظن أن المرأة يجب أن تكون بعيدة من أفكارنا والتحدث في ما يشغل كل أوقاتنا وخصوصاً نحن معشر الشباب الذين أصبحنا لا ننظر للمرأة كما يراها غيرنا أداة للمتعة وسد مطالب الرجل. وكيف نحصل على ترقية الرجل إذا أمه لا تشترك في تهذيبه وزوجته لا تشجعه” (النهضة 10 يناير 1932)
وتسرب أبو شمه بهذه المعاني الدقيقة الخطرة إلى كتابة القصة القصيرة فكتب قصة عنوانها “خيبة أمل” (15 نوفمبر 1931) يحلم فيها حسن أفندي بفتاة أحلام-زوجة “يحبها حباً حقيقياً، وتحادثه في كل مواضيع الحياة، وتتفسح معه على ضفاف النيل، وتوءم معه محال السينما وتذهب معه إلى السوق فتختار ملابسها وأدوات منزلها”. لكنه ينتهي إلى زواج إحدى بنات عمه المتوفى “وأي واحدة منهن تستطيع أن تجر الساقية بمفردها وانتهت الأحلام”.
ونواصل




