الأزهري في رحاب الخالدين
مالي أكتم حبا قد برى جسدي وتصطفى حب الأزهري الأمم!
أَقسَمتُ أَنَّكَ في التُرابِ طَهارَةٌ
مَلَكٌ يَهابُ سُؤالَهُ المَلَكانِ
نعم إن المولى جل شأنه وعلا هو الدائم الأوحد ولا ديمومة لسواه. وأن الموت هو ذلك السارق الذي دق شخصه الذي برح وما انفك يصول بلا كف ويسعى بلا رجل. ومع الإيمان الراسخ بقضاء الله وقدره إلا أن الفاجعة تجاوزت كثيراً قدرات الصبر المحدودة لأنها هذه المرة كانت تحتاج إلى بعض من صبر أيوب. لقد ألجم المصاب لساني وأنا الذي كنت أتوهم أن لي قدرة على الإبانة والإفصاح، ووقفت عاجزاً عن الكتابة أمام السيل الجارف من مشاعر الحزن الأصيل النبيل التي ضجت بها الأسافير وصاغها ودونها الأحباب، خلاف تلك التي سارت بها الركبان وتسربل بها الآخرون الذين جاءوا على كل ضامر ومن كل فج عميق في القاهرة وفي قنتي وفي الحصاحيصا التي وهبتها كل حياتك قائداً ومعلماً وإدارياً ومنارة للبر والإحسان وقمة لا تطال في مكارم الأخلاق وحفظ حدود الله.
لقد توخي حمام الموت هذه المرة ذلك الرجل السمح إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى، ذلك الملاك الطاهر الذي تنحني قامته من كثرة المكارم التي حملها ظهره وضج بها قلبه ناصع البياض وتفتقت عنها عبقريته واتسمت بها ذاكرته الفولاذية قبل دخول جوجل إلى عالمنا واتقد بها ذكاؤه قبل أن تجد الدنيا طريقها إلى الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك كان عليه رحمة الله من الذين يمشون على الأرض هوناً مجسداً البيت القائل:
ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ.
كنت أحسب جهلاً مني أنني محيط بكل جوانب شخصيتك الفذة التي قامت على مكارم الأخلاق والتواضع الجم والإيثار، واكتشفت جهلي عندما نعاك الناعون وسرد مآثرك المؤبون، لأدرك وقتها أنك محيط مكارم ذاخر لا حدود له يتجاوز قدراتي التقليدية في الإدراك.
ففي الإيثار، تستحق أن تكون المثال الذي يستحق أن يسير على نهجه الإخوة الأشقاء. فقد آثرت بعد تفوقك الجامعي المشهود أن تبقى بالقرب من والديك ومهدت لي طريق الغياب والأسفار للدراسة والعمل. فعلت ذلك وأنت صاحب الذكاء الفطري غير المسبوق والكيس الفطن اللبق الذي كانت ستحتفي به ساحات هارفارد والسوربون باحثاً في مختلف ضروب المعارف الإنسانية والمؤهل لحصد جوائز نوبل في كل مجالات الأبحاث والعطاء الإنساني.
فعلت كل ذلك لتبقى الوصي والقيم والحارس الأمين والمؤتمن على الأسرة وممتلكاتها وسفيرها المفوه الفخيم في دروب الاجتماعيات أفراحاً وأتراحاً وعيادة المرضى وقضاء حاجة من يسعى إليك.
كان من بين المعزين الكثر يتامى عكفت على كفالتهم ذرفوا الدمع السخين لفقدان والدهم الثاني، هبة الله لهم عقب رحيل الوالد الأول، وتمنوا أن يطيل الله أعمارهم حتى يستمروا في الدعاء لك وأنت في عليين.
كنت قمة اجتماعية لا تطال تجوب مدن السودان المختلفة مواسياً ومهنئاً، وكان للجزيرة القسط الأوفى من رحلاتك النبيلة صيفاً وشتاءً، ربيعاً وخريفاً. فقد كنت تعرف سهولها ووديانها وقباب الصالحين وأضرحتهم بصورة أثارت غيرة “جوجل”. كنت لا أراك كثيراً عند عودتي للمنزل المبارك بدرة المدائن عطلة نهاية الأسبوع، لأنك وقتها تكون في صيوان عزاء أو خيمة أفراح بإحدى مدن الجزيرة وقراها.
لقد حافظت على المنزل كما أراد له الوالد الزعيم عليه رحمة الله ورضوانه، قبلة للضيوف والزائرين من كل حدب وصوب منذ أيام دراستك الأولى. فكان استراحة لزملائك وأقرانك في المدرسة المتوسطة القريبة من المنزل، وأقام بالدار دارسون من الأهل والمعارف حتى أكملوا دراستهم بالحصاحيصا، وسعدت الدار وتشرفت باستقبال الأهل وذوي القربى من كل بقاع السودان وكنت تقوم بنفسك على خدمتهم. أما الأحباب الرياضيون فقد كانت الدار قبلتهم وهم في ترحالهم بين مدن السودان المختلفة، كنت بالنسبة لهم قمة لا تطال ومرجعية قانونية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وصديق صدوق. فكانوا ينيخون الركاب في تلك البقعة المباركة من حي العمدة من باب (الحج عرفة) وكثيراً ما ضاق بهم صالونك الفسيح جيئة وذهاباً بين العاصمة والجزيرة.
الحبيب الزعيم الأزهري: أخفيت عليك خوفي من كثرة زياراتك لمقابر السودان المختلفة مشيعاً ومعزياً وخطيباً مفوهاً يمزج بين آداب كلام الله الحق وبين آداب العربية في بلاغة تدهش القلوب والعقول. وهذا كان دأبك في منابر الرثاء والشكر والحمد. خشيت أن تتوثق الصلات بينك وبين المدافن فتشتاق إليك وإلى ضم جسدك الطاهر في ثراها. وكنت أخشى عليك من العين السيئة وأنت تعزف على أنغام اللغة نحواً وصرفاً وبلاغة تسعد بها سيبويه في قبره. وكنت كثيراً ما أراجع نفسي قناعة بأن الموت والحياة هما قدرة خاصة للمولى عز وجل لا ينافسه عليها أحد.
كنا عندما نكون في حضرة الأطباء أثناء مرض الأزهري رحمه الله، ينتقل الأطباء في تلخيص الحالة بالإنجليزية فيرد عليهم الراحل المقيم بإنجليزية لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، وكانوا يرفعون حواجب الدهشة عندما يعلمون أنه ليس من دارسي الطب، لكنه كان ذلك البحر الذي كمن في أحشائه در الكلام وعظيم المعرفة.
كانت صالة العزاء التي أمها أهلك ورفاقك ومعارفك وعظيم أصدقائك بدار الأرقم بمدينة نصر بالقاهرة استفتاءً حقيقياً على رفيع مكانتك في قلوب الذين ذرفوا الدمع السخين في تلك الليلة التي صرت أحملها في عقلي وخيالي حيثما ذهبت. واللافت أن كلهم لم يأتوا معزين، وإنما أتوا لتلقي العزاء لقناعتهم بأنك بذلك جدير. “وأن موت الأزهري ليس بموت واحد – لكنه بنيان قوم تهدما.”
وفي الحصاحيصا تزاحم الأحباب إلى الدار لحظة إذاعة رحيلك المفاجئ وجرت الصلاة عليك في المسجد الذي تشهد لك جدرانه وجنباته ومآذنه وفرشه بأنك سعيت وبذلت كل الذي تملك صيانة وتعميراً وتنظيماً وترتيباً ورعاية لذلك المسجد العتيق، ولولا الظرف العصيب والطارئ الذي تشهده درة المدائن حصاحيصا الخير والنماء، لشيعتك الآلاف ولتسابق إلى حمل نعشك الطاهر الأهل والمعارف من كل مدن السودان، ولساروا خلف نعشك تطبيقاً للبيت القائل: “مشي الأمراء حوليها حفاة – كأن المرو من زف الرئال – كأن الموت لم يقبض لنفس ولم يخطر لمخلوق ببال – صلاة الله خالقنا حنوط على الوجه المكفن بالجمال.”
رحمك الله وأبقاك في جنة عرضها السماوات والأرض، وقد كنت التقوى التي تسير على قدمين. وستبقى أميرة التي تحولت إلى ملكة في مملكتك الفاضلة، والنابهة رؤي طالبة الطب التي حجزت مكانها بين كبار الطب قبل التخرج، ولاغرو في ذلك فهي رؤية والدها الزعيم، والنابغ النابه محمد الأول دون منازع على أقرانه بدليل تكريمه المتكرر من السلطات والمجتمع. سيبقون في حدقات العيون أمانة تركها في الأعناق أنزه الرجال وأشرفهم الراحل المؤتمن على كل القيم.
وما كنت أعلم قبل دفنك في الثرى أن الكواكب في التراب تغور.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
شقيقك المحب المكلوم
حسن علي عيسى