*في رثاء هرم الغناء السوداني الأستاذ عبد الكريم الكابلي كتب د. حسن علي عيسى – إلي كابلي الإنشاد الأروع في عليائه*

في رثاء هرم الغناء السوداني الأستاذ عبد الكريم الكابلي كتب د. حسن علي عيسى
– إلي كابلي الإنشاد الأروع في عليائه
– إلي زرياب التطريب المطلق.
– ويجري مدمعي شعرا أنا أبكيك للذكرى
-الخرطوم التي ظلت تهب في جنح الدجى ستضمد بالعزم هاتيك الجراح
– ما كنت أعلم قبل شدوك المموسق برائعة سيد عبد العزيز( بت ملوك النيل) أن ( نوبل) كان قد خصص جائزة للجمال جنبا إلي جنب
جائزته الدولية للسلام.
– أنشدنا في غيابك المر عن وطن الجدود( ماهو عارف قدمو المفارق( يا العزيزالكابلي السلام). منذ أيام وأنا أتمتم برائعة المتنبي :
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال
وندخر السوابق مقربات
فما ينجين من خلل الليالي.
ولعل غوصي في شعر الموت ذاك السارق الذي دق شخصه والذي يصول بلا كف ويسعي بلا رجل كان شعورا إستباقيا لحادث جلل تسير بهوله الركبان، فما هي إلا ساعات قلائل ونعي الناعي زرياب الغناء السوداني صوتا وإنشادا وشدوا وأداء وعظيم ونبيل معان الأستاذ القامة عبد الكريم الكابلي طيب الله ثراه ، فقد كنت ولا زلت أرى في راحلنا المقيم المثال الجلي والحد الفاصل والدليل العلمي الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على الفرق بين المغني والمطرب ،فالمغني يصدح بكلمات دون أن يغوص في أعماقها أحيانا كثيرة ويعتمد في إرسالها لوجدان المتلقي على بعض جمال الصوت وعلى كم هائل من الأدوات الموسيقية،أما المطرب والذي جسده راحلنا المقيم عبد الكريم الكابلي مظه ًرا ومخبرا فهو ذاك المبدع الذي يحرك في المستمع نبيل الإحساس ودافق الشعور بمجرد الحديث نثرا أو شعرا بالموسيقي أو بدونها.
فالكابلي غشته رحمة الله ورضوانه يجذبك ان تحدث بالعربية أو بالانجليزيه أما اذا غني وأنشد فسيجلك حت ًما على قمة أولمب ( مريا) الراحل المقيم صلاح إحمد ابراهيم وحواليه عرائس الأساطير اليونانية القديمة فتختال أمامك صور الجمال متعددة الآفاق رالإشراق ويرفل الإبداع في صوره القشب.
كان الكابلي عليه رحمة الله ورضوانه قد تميزعن أقرانه بأن ضمن ألحانه وإنشاده الفخيم رسائل محملة بقيم العشق والجمال والشجاعة والكرم والبسالة والإيثار والعلم والثقافة، فقد مزج الحداثة بالقديم وبالحقيبة وصدح بدرر الشعراء العرب قدماء ومحدثين وخلد بديع شعر الشعراء السودانيين وأضاف إليها من وادي عبقر إبداعه وجمال وعمق صوته المثير فأضحت كل إعماله الفنية درو ًسا وكتبا مفتوحة تثري الوجدان عبر التطريب اللفظي والموسيقي.
كنت أجد في أناشيده وأهازيجه رابطا قويا بينها وبين مناهج التعليم السودانية في عصر التعليم الذهبي تلك التي صاغها عباقرة وأفذاذ العملية التعليمية التربوية في ذلك الزمان النضر،وهي المناهج التي أستطاعت ان تحملنا من مقاعد تلاميذ المدرسة التي كان يطلق عليها الإبتدائية قبل ان يطلق عليها مرحلة الإساس دون إي أساس يذكر، إستطاعت تلك المناهج الذكية العبقرية المنفتحة ان تحلق بنا في مختلف مدن وقري وسهول السودان لنلتقي ونتعرف علي الأصدقاء في القولد وريره والجفيل وتسامر ونحن جلوس في مدننا وقرانا
نسامر صديقنا أحمد محمد صالح في ود سلفاب وذلك قبل أن يعم شذى وعطر وعبق صديقي ودفعتي مصطفي سيداحمد السودان أجمع والوطن العربي.
ثم نقلتنا تلك العبقرية التعليمية التربوية خارج حدود السودان وصار لنا أصدقاء ( أون لاين) في مختلف دول العالم المختلفة نتذوق طعامهم ونطلع على ثقافاتهم وثرواتهم وسبل كسب عيشهم وتاريخهم وجغرافيتهم.
هكذا فعل الكابلي طيب الله ثراه عندما تغني بإنشودة ( آسيا وإفريقيا) التي خطها يراع المبدع تاج السر الحسن ،فعندما( عزف قلبه الأناشيد القديمة غني للرفاق في البلاد الآسيوية للملايو ولباندونق الفتية). ولأثيوبيا وبلاد الرافدين وقتها ما كان معظمنا قد سمع بالملايو وبباندونق.
ومضي زرياب الغناء السوداني طيب الله ثراه يضيف أبعادا جمالية إلي أهزوجة الأستاذ السر الحسن فتغني للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو وأندونيسيا وسوكارتو وغاندي والهند وصوت ( طاغور )المغني.
كنا نطوف معه العالم كما كنا نفعل بفضل المقررات والمناهج الذكية في عصر التربية والتعليم الذهبي دون حاجة الي حجز مقعد علي
طائرة ودون تأشيرتي دخول وخروج ولم تفرض علينا الأقدار وقتها فحص الكرونا من إجل السفر. وقطع راحلنا المقيم في رائعة آسيا وإفريقيا بوعد مفاده ( أن نلتقي في الرياح الآسيوية كأناشيد الجيوش المغربية.) هكذا كان اختيار مبدعنا العظيم يقع علي أعمال فنية هي خلاصة مراجع وكتب الجغرافيا والتاريخ وكانت ترسخ لمبدأ عدم الآنحياز الذي ذهب مع الريح وقد كان زعيمنا الراحل إسماعيل الأزهري طيب الله ثراه أحد حداة الفكرة ورمات حدقها. كذلك كان الثورة والثوار حضو ًرا باذ ًخا في اناشيد وأهازيج الكابلي عليه الرحمة.
فقد صور الخرطوم وهي تهب في جنح الدجي لتضمد بالعزم هاتيك الجراح، حقا قد طال وإستطال ليل الخرطوم عبر كل الحقب التاريخية والسياسة المتلاحقة، والخرطوم هنا ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود هو وطن الجدود، دعنا نعدك وأنت في عليائك بأن الوطن العزيز بشبابه الطامح الوثاب وبورك في الشباب الطامحين سيواصل تضميد جراح السياسة والاقتصاد والأمن والوحدة الوطنية،فهذه غاية نبيلة دونها المهج رالأرواح.
نشهد أنك ما كنت (ضنينا بالوعد) ،وكنت دائم الحضور في المواعيد الكبرى، وكنت صادقا وأنت تصدح بكلمات المبدع صديق مدثر مؤكدا أن ( خيال الشعر يرتاد الثريا) ،ووضح لنا جليا أن خيال الشعر لا يرتاد الثريا وحيدا وإنما يكون مصحوبا بذلك الأداء العبقري والإنشاد الفخيم الذي كان دأبك وديدنك.
دعني أقول لراحلنا المقيم أنني ان ( كنت لا أعلم قبل دفنك في الثرى أن الكواكب في التراب تغور) فقد كنت أجهل أيضا قبل إنشادك الفخيم لرائعة سيد عبد العزيز( يا بت ملوك النيل) أن الكيميائي السويدي ألفرد( نوبل ) الذي أسس جائزة نوبل للسلام قد أفرد أيضا جائزة للجمال صدح بها صوتك الأنيق الفخيم مخاط ًبا ( أخت البدور) بالقول : فقتي اللكانو قبيل ماخدات في الجمال جائزة نوبل.
إن مثل هذا الغناء الرسالي الجميل يعمق البعد الثقافي لدي الكثيرين من بين الذين يجهلون نوبل و جائزته ويزيل أمية أمثالي الذين يجهلون وجود( جائزة نوبل للجمال) والتي هي من بنات افكار ذلك الشاعر المجيد وزادها ابدع المطرب روعة وإشراقا وألقا.
وستبقي هذه الأنشودة خالده في وجدان الشعب السوداني لانها ربطت الجمال بقيم أصيلة من صميم قيم شعب السودان، فآباء المحبوبة هم ملوك النيل وقد اتصفوا بالكرم الحاتمي والشجاعة والبسالة، ( ما كان ابوك بخيل… بت عز الرجال أهل الدروع والخيل الفارس الجسور).
كان الاستاذ الكابلي عليه رحمة الله كريما وسخيا في عطائه وإبداعه الفني،وظل يحمل فرشاة كبار علماء الآثار الحاذقين لينفض الغبار عن التراث والقيم السودانية الأصيلة عبر الحقب والأزمنه، فأطرب وأشجي حد الثمالة وهو ينشد( ما هو الفافنوس ماهو الغليد البوص) تلك الأنشودة التي ترفض الميتة أم رمادا شح) وتتغزل في (أسد بيشه المكر قمزاته متطابقات ويرضع في ضرائع العنز الفاردات) ويكفي الفارس فخرا إنه ( مقنع بنات جعل العزاز من جم).
تستمع إلى أهزوجة الحماسة هذه ولاتملك إلا أن تستل سيفك وتهرع إلي (عكازك المضبب لتعرض وتهز وتبشر وتطير صقريه) ، وأصدقكم القول بأنني أجد نفسي في ( متين ياعلي تكبر تشيل حملي) فقد كبر ابني علي رجلا كامل الدسم مع أخيه حسام إلاأن ظروف النهل من العلوم قادتهما الى مدن بعيده كنت اعتقد (أنها تنوم وتصحي على مخدات الطرب) ،لكنها صارت لا تنام الان بسبب دوي الرصاص وهتافات الرافضين للتطعيم ضد الكرونا، أحن إليهما وإلى أخواتهما بعد أن وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا.
كنت قد قرأت أبياتا صاغها شاعرنا المقيم في الذات الإلهية وهي تعبر عن نزعة صوفية عميقة الجذور زادت مكامن الإبداع لدي هذا المطرب العبقري والمثقف الباذخ.
لراحلنا المقيم في عليائه أقول :ما عاد بيننا بعد رحيلك المر من هو( عصي الدمع) على طريقة أبي فراس الحمداني ،ولكن الصبر يبقي شيمتنا، فقد بذلت المقل الدمع مدرارا سخينا،وندعو لك بالرحمة والمغفرة بقدر ما أطربت وثقفت وعلمت وهذبت وأشجيت. ( فحبك للناس) هو الذي جعل أهل السودان يحبونك مثني وثلاث ورباع وإلي ما لا نهايه،فأرقد قرير العين هانيها، إذ أري في كل شبر من أرض الجدود يدا مرفوعة ولسان ذاكر وقلب خافق يدعون لك بالرحمة والمغفرة.

الخرطوم ٣ ديسمبر٢٠٢١

مقالات ذات صلة