كتب : عمار عوض
تغيرات متسارعة شهدتها الساحة السودانية بدء من دخول الجيش السوداني وسيطرته على مدينة ود مدني وما تبعها من احداث ابتهاج عام وسرعان ما خرجت مقاطع فيديو مؤسفة لمقتل مواطنين جنوب سودانيين على يد قوات (غير نظامية ) تعمل مع الجيش في الجزيرة ، وادان قائد الجيش البرهان فور وصوله من زيارة خارجية (القتل خارج القانون) وشكل لجنة للتحقيق تبعا لذلك ، فيما جرى عنف تجاه السودانيين في مدينة جوبا وفي سياق غير بعيد فرضت الولايات المتحدة عقوبات بتجميد ارصدة القائد العام للجيش السوداني قبيل انتهاء أجل فترة الرئيس بايدن بأيام معدودة.
وتعود تفاصيل التوتر بين السودان وجنوب السودان الى ظهور مقاطع فيديو لمواطنين في منطقة كمبو خمسة او كميو طيبة يتم تصفيتهم بطريقة بشعة وخارج القانون من قبل أشخاص يتبعون لقوات قاتلة في معركة دخول ود مدني على ما يبدو ، وهو الأمر الذي وجد استنكارا من كافة القطاعات المشاركة من قيادة القوات المشتركة ودعا القائد مناوي لضرورة التحقيق في القضية ، ثم تداول الناس لاحقا مقاطع تشير إلى ان من قتلوا مواطنين جنوب سودانيين ، ثم بدا الغضب ينتشر في التايم لاين الجنوب سوداني مستنكرا هذا القتل وبدات حالة هياج وغضب في وسائط التواصل الاجتماعي الجنوب السوداني تستدعي الى الاذهان كل سنوات العنف التي عاشها الجنوب سودانيين خلال سنوات الحرب التي انتهت بانفصال / استقلال جنوب السودان ، وبالمقابل كان السودانيين عامة منصرفين الى الاحتفاء بدخول الجيش ود مدني وغير متابعين للانفعالات الساحنة بجهة الحادثة وسط الجنوب سودانيين .
من المهم الاشارة ايضا الى ان جنوب السودان الذي كان واقعا تحت تأثيرات الحرب الداخلية السودانية من حيث ايواء الاف اللاجئين السودانيين ، ومشاهدات مواطنين عن تواجد لمواطنين جنوب سودانيين خلال المعارك ، وتوقف النفط الذي جعل الاقتصاد يكاد ينهار ، وتغيرات كبيرة في بنية السلطة داخل جنوب السودان وقطاعها الأمني والعسكري ، وتباين في وجهة نظر القادة حول وضعية الحكومة في العاصمة المؤقتة بورتسودان والذي وصل ان صرح نائب الرئيس تعبان دينق بعدم (وجود حكومة في السودان ويجب ضم ابيي لدولة الجنوب) وهي التصريحات التي نفتها الرئاسة في جنوب السودان مؤكدة على (شرعية الحكومة السودانية ) ، وبين ذلك كله جرى اعفاء مستشار الشؤون الامنية توت قلواك وقبله تم إعفاء مدير المخابرات في ملابسات مختلفة .
وبدا واضحا ان نسقا سياسيا وامنيا يتشكل في دولة جنوب السودان ، وأن خطورته تكمن عودة روح العداء بين الدولتين ومواطنيهم تبعا لذلك والشكل العنيف الذي رآه الناس في (الجزيرة – جوبا) او حتى في الجانب السياسي حيث يرى كثير من الجنوب سودانيين ان يعلن ضم ابيي لدولة الجنوب وهي اللجان التي ينشط في البت حولها نائب الرئيس رياك مشار ووزير شرق افريقيا دينق الور، وهو الامر الذي ياتي في ظل انقسام حاد وبائن بين المسيرية انفسهم تبعا للحرب بين الجيش والدعم السريع فيما يقبع حلفائهم غرقى اسرى (الحكومة الموازية) وتبعاتها، كما ان الحكومة والشعب الفضل منشغلين بالحروب في صورتها الكلية.
وفي خضم ذلك كله خرجت صحيفة نيورك تايمز بتقرير يشير إلى ان الولايات المتحدة تريد فرض عقوبات على الجيش السوداني لاستخدام أسلحة كيماوية في الحرب، وقبل ان يعود حاجب دهشة المراقبين من غرابة الاتهام حيث لم يرد اثر دعك من خبر عن ضحايا اسلحة كيئمائية .
و بالتزامن تاتي من واشنطن الانباء معلنة حيث ان إدارة الرئيس بايدن فرضت عقوبات حول الممتلكات و الارصدة وعدم التعامل التجاري مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بتهمة عرقلة الانتقال المدني والعملية السلمية بعكس الاتهامات التي بنت عليها اتهام قائد الدعم السريع محمد حمدان الذي اتهمته بخرق اعلان جدة وارتكاب جرائم حرب وابادة جماعية.
وجاء في قرار الخزانة الامريكية عن تسبيب الاتهام للبرهان انه (عارض البرهان العودة إلى الحكم المدني في السودان ورفض المشاركة في محادثات السلام الدولية لإنهاء القتال، واختار الحرب على المفاوضات بحسن نية وخفض التصعيد. تحت قيادة البرهان، تضمنت تكتيكات الحرب للقوات المسلحة السودانية القصف العشوائي للبنية التحتية المدنية والقتل خارج القضاء).
ونجد ان صحيفة الاتهام التي اعلنتها الخارجية الامريكية ليس فيها أي اشارة نصية ل(جرائم الحرب ) بل استعاضت عنها با الجيش اتخذ (تكتيكات) مميته وهنالك فرق واضح بين التكتيك والجريمة ، كما لا تشير صحيفة الاتهامات لاستخدام الجيش اسلحة كيماوية ولكن تم التاسيس الاولى لذلك باتهام مواطني أوكرانيا – سوداني بشراء اسلحة وطائرات مسيرة واسلحة غير تقليدية من أذربيجان واوكرانيا للجيش السوداني ، وقامت تبعا لذلك بحظر ارصدته واصوله في الولايات المتحدة ومنع اي تعامل تجاري في الولايات المتحدة مع شركاته الممتدة والتي قالت انها تعمل لصالح منظومة الصناعات السودانية التي عاقبتها الولايات المتحدة ايضا قبل شهور .
يبدو ان إدارة بايدن ارادت قبل ان تودع السلطة قررت ان تفرض عقوبات ليست ذات اثر حاليا باعتبار انها خلت من الاشارة الى عدم دخول الولايات المتحدة بحق البرهان الذي ليس لديه ارصدة وتعامل شخصي تجاري ، ونجد ان التهمة التي وضعوها سببا لمعاقبة (قائد الجيش ) انه (أعاق الانتقال المدني والعملية السلمية) ، ما يطرح سؤالا مفاده (هل اذا استعاد الانتقال المدني وعاد لمسار تفعيل التفاوض والعملية السلمية سيكون الطريق سالكا امامه ؟)
وهنا لابد من الاشارة في الوقائع للزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي الى مدينة بورتسودان ، أمس الأول الثلاثاء 15 يناير، ولقائه الثاني مع أقطاب الحكومة السودانية ورئيسها عبد الفتاح البرهان حيث حملت الأخبار المنشورة انهما ناقشا ملفات تداعيات الحرب وكيفية انهائها الى جانب ملفات اقتصادية مثل الشراكات والاستثمارات واعادة الاعمار وقضايا الامن المائي و سد النهضة.
وفي سياق ذي صلة نجد ان ردهات فندق كورال في ذات التوقيت شهدت اجتماعات لقوى الكتلة الديمقراطية وحركات سلام جوبا ومدنيين آخرين ، حيث تجرى مشاورات لإجراء تعديل في الوثيقة الدستورية ، بحذف كلمة (الحرية والتغيير) في كافة مواضعها والاستعاضة عنها بكلمة (المدنيين ) ما يقتح الباب ل (تعيين رئيس وزراء وحكومة ) ما يعني استعادة للانتقال والحكم المدني ، ما يعبد الطريق لعودة السودان الى الاتحاد الافريقي عضوا فاعلا حسب الذين يعملون على هذا الاتجاه.
وفي هذا السياق ايضا نجد ان بورصة الاخبار نقلت الاسبوع الماضي عن وزير المالية جبريل ابراهيم، ان القاهرة لديها تواصل مع الحكومة في بورتسودان وأبوظبي لتطبيع العلاقات بينهما ، وفي السياق ذاته نجد ان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يزور أبوظبي ،منذ الأمس الخميس، وصحيح ايضا ان زيارة الرئيس المصري الغرض الظاهر منها اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والوضع في سوريا، لكن قطع شك ان ترتيبات الاوضاع في السودان كانت حاضرة.
وغني عن القول ان انعقاد قمة الاتحاد الافريقي الشهر القادم هي الخيط الذي تنتهي وتبدأ منه كل خطوط الاحداث الجارية الذي ربما يشهد عودة السودان عضوا فاعلا ، وهو ما دللت عليه مؤشرات زيارة الرئيس السوداني عبد الفتاح برهان الى خمسة من دول غرب افريقيا جرى استقباله فيها رسميا وكان ذلك بمثابة انهم صوتوا لعودة السودان والتي انتهت بزيارة الرئيس الموريتاني في نواكشوط والذي تراس بلاده الاتحاد الافريقي لهذه الدورة ، وبهذا تكون كتلة غرب أفريقيا وشرق وشمال إفريقيا تدعم شرعية المؤسسات القائمة والحاكمة في السودان الان
وهنا تجدر الاشارة الى ان دولة جنوب السودان تراس لأول مرة كتلة دول وسط افريقيا الذين اعلنوا بدورهم دعم المرشح الكيني ، لكن بيت القصيد هنا ان جوبا تعيش ما بين نار علاقاتها التاريخية مع السودان وشريان النفط ، وما بين المضي بعيدا مع تكتل دول الوسط كينيا واثيوبيا ويوغندا مثلما مضت معهم في توقيع تعديل مبادرة حوض النيل التي تعيد النظر في انصبة المياه ، و(الحكومة الموازية) التي يدعمها بشكل او باخر حلفائها الحاكمين في نيروبي وأديس أبابا وكمبالا الى جانب انها اعادت قضية (ابيي) للواجهة وهي برميل بارود متفجر اصلا وقابل للانتقال.
ومن كل هذه الغيوم الداكنة من السودان وبورصة اخباره نجد ان محركات أو تفاعلات السودان تمضي في اتجاهين :
اولها ان يقود ما حدث لمواطني دولتي السودان في الجزيرة وجوبا الى قطيعة نفسية من ناحية الجنوبيين وأن يغضوا البصر تدفق الاسلحة والمقاتلين الى ميدان المعركة في السودان او استخدام هذه الحادثة مبررا للتعامل مع (الحكومة الموازية) التي يروج لها عدد من القادة الدارفورين المتماهي مع اطروحات الدعم السريع ، الذين بالضرورة انهم سيوافقوا على كل ما يتعلق بمنطقة ابيي وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق وان يقود كل ذلك الى (جر رجل جنوب السودان ليكون طرفا مباشرا في الحرب على الارض او في ردهات الاتحاد الافريقي).
ويشمل سياق هذا التفاعل غير الحميد ان يقع الجيش السوداني فريسة التصورات التي ترفض الولايات المتحدة وتجد زريعتها في العقوبات التي فرضت رغم رمزيتها الظاهرة في (إعاقة الانتقال وعدم الالتزام بالتفاوض واتهام الجيش ب(تكتيكات) وليس (جرائم) ، والخوف في هذا التفاعل ان يستخدم هذا الاتهام للعداء لامريكا او الغرب وجر السودان للتحالف مع التصورات والمصالح الروسية مثلما فعلوا مع البشير بداية التسعينات وقابلتهم واشنطن برفع سقف العقوبات بل قصف الخرطوم مباشرة بالصواريخ تبعا لاتهامه بتصنيع اسلحة كيمائية ، وانتهت حالة العداء لامريكا بتوقيع اتفاق نيفاشا للسلام الذي اعطى جنوب السودان حق تقرير المصير والذي انتهى بانفصال الجنوب ما يشى الى ان معاداة امريكا السافرة على طريقة التسعينات والتي تطل براسها الان لو اطلق لها العنان ستنتهي يوما ما يانفصال دارفور وجبال النوبة وهذا ليس قطعا بالغيب ولكن تجاربنا تقول ذلك .
ثاني هذه التفاعلات او السيناريوهات ان يتعامل السودان بحكمة وعقل مع كل هذه التطورات بان يشدد اجراءات احترام القانون في معاركه القادمة خاصة تلك المتوقعة في المصفاة او مدينة الخرطوم واحترام معاهدة جنيف بحق المقاتلين الاعداء ، وان يتواصل مع جنوب السودان بكافة قنواته والاعتذار او لنقل توضيح الخقائق وتقديم من ظهرت صورهم الى التحقيق والمحاكمة ، وذلك للمحافظة على العلاقات والمصالح وتاثيرات دولة وشعب جنوب السودان على الواقع السوداني الحالي والمستقبلي .
ويشمل سياق هذا التفاعل ، عدم السماح ب(جر السودان وجيشه الى عداء سافر للولايات المتحدة ) بان تقول الحكومة مثلما قالت بان هذه العقوبات غير منصفة وان السودان دولة تحترم القانون وسيادته وان عقلها مفتوح للتعامل وتوضيح الحقائق للادارة الامريكية الجديدة متى ما دعت للحوار او التواصل مع الحكومة السودانية ، وانها ستمضي في استعادة الحكم المدني عبر توافق سياسي واسع النطاق، وان يقطع الطريق على اصحاب التصورات الفطيرة وغير المدروسة ما اهلك السودانيين سابقا ،والمضي بخطى ثابته داخل ردهات الاتحاد الافريقي عبر دول شرق وشمال افرقيا ودول الساحل والصحراء واقليم البحيرات ، والى ذلك الحين يبقى الامل معقود بان لا نسمح للدخان ان يحجب عنا بعض الرؤى كي لا تموت بلادنا مختنقة بالعنف والكراهية ونحن (قدامنا الصباح) ولو طال الزمن .