*د. ياسر محجوب الحسين يرد على عثمان ميرغنى حول تعليقه على العقوبات الامريكية*

*أرجو أن يسمح لنا الأخ الزميل عثمان ميرغني أن نختلف معه؛ فحتى لو صحّ افتراض أن العقوبات الأمريكية جاءت بسبب عدم مشاركة السودان في مفاوضات جنيف، فإن السؤال الأهم ليس عن سبب العقوبة، بل عن الثمن الذي كان سيدفعه السودان لو شارك فيها بالشروط المفروضة عليه وقتها. ماذا لو استجاب القائد العام للجيش السوداني للمبادرة الدولية، وجلس مع المليشيا على طاولة واحدة وهي تحتل العاصمة ومدني وسنار وغيرها من المدن؟ أكان سيوزع عليها الاعتراف السياسي مجانًا، مكافأةً لها على التمرد والعنف، ويمنحها ما يشبه التمثيل السيادي بعد أن نزعت سلاح الشرعية وحاصرت مؤسسات الدولة؟ وماذا لو تمرد الجيش عليه؟ هل يمكن لقوة مسلحة تقاتل وتحمل الأرواح على أكفها أن تقبل أن يتحول نصرها في الميدان إلى هزيمة على الطاولة؟ وماذا عن الروح المعنوية التي توهجت بين الناس؟ ماذا عن التلاحم الشعبي الذي نشأ حين شعر المواطن بأن الدولة تقاتل نيابةً عنه، لا ضده؟ أكان ذلك ليستمر لو أُعلن أن التفاوض مع المليشيا حق مشروع، والاحتلال بوابة للاعتراف؟ كم مرة في التاريخ نجت دولةٌ تنازلت عن عاصمتها مقابل رفع عقوبات مصرفية؟*
*هل يُعقل أن تصبح السيادة الوطنية ومشاعر ملايين السودانيين قابلة للمقايضة مقابل أن تسمح لنا واشنطن بالتواصل مع النظام المصرفي العالمي؟ وما جدوى هذا التواصل إن كان ثمنه بقاء المليشيا فوق رؤوس الناس؟ وهل ماتت روسيا جوعًا حين قُطعت عنها أنظمة الدفع الغربية؟ أم أنها أعادت توجيه اقتصادها، واستثمرت في خيارات بديلة، وفرضت حضورها على الخارطة الدولية رغم الحصار؟ وهل امتلكت كوريا الشمالية سلاحًا نوويًا لأنها تواصلت مع البنوك العالمية؟ أم لأنها قررت أن تستثمر في ذاتها، رغم كل عزلة وحصار؟ العزلة ليست موتًا، إذا صاحبها مشروع وطني، لكن الخضوع هو الهزيمة الأكيدة حتى وإن غمرتك البنوك بالدولارات*.
*الخطير في ما يُطرح اليوم ليس في التحذير من العقوبات، بل في اللغة التي تحمل هذا التحذير. لغة تنهزم قبل المعركة، وتسوّق للفكرة القاتلة: أن الطريق إلى الدولة يمرّ من باب الرضا الأمريكي. أن لا خلاص لنا إلا إذا جلسنا حيث يطلب الغرب، وتكلمنا بما يحب أن يسمع. إن من يدعو للتنازل عن مكاسب ميدانية واستراتيجية عظيمة، ثمناً للاندماج في النظام المالي الدولي، لا يرى الدولة إلا كحساب بنكي، ولا يرى الكرامة الوطنية إلا كمجرد قدرة على استيراد البضائع بلا عقبات*.
*إن منطق “شاركوهم حتى لا يُعاقبوكم” ليس سياسة، بل انكسار. وهو منطق يشرعن التمرد، ويمهّد لكل من يحمل السلاح غدًا أن يفاوض بدلاً من أن يُحاسب. مفاوضات جنيف لم تكن مبادرة سلام، بل إعادة تدوير لكيان فوضوي، ومسرحًا لشرعنة واقع فرضته المليشيا بالسلاح، بينما يقاتل الجيش لاستعادة ما تبقى من السودان الرسمي. القبول بها كان يعني أن ما أخذه التمرد بالحديد والنار يمكن أن يتحول إلى حق سياسي بمجرد الجلوس على كرسي التفاوض*.
*السودان ليس بلدًا فقيرًا يبحث عن رضا البنوك، بل بلد غني يحاول أن ينهض من جديد. وأخطر ما يهدد نهوضه ليس الحصار، بل الدعوة لقبول شروطه. الشعوب لا تُقهر إلا حين تفقد إيمانها بذاتها، وتستبدل ثقتها بأعدائها. لم تبنُ الأمم استقلالها بالتماس الغفران من مراكز القوة، بل بتحديها حين لزم الأمر. والسودان، الذي صمد كل هذه العقود، لن يركع اليوم من أجل تحويلة مصرفية*.

مقالات ذات صلة