*تداعيات ———– يحيى فضل الله ———– ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻋﻠى ﺗﻨﺪﺓ ﻟﻮﺭى*

———-
الى الشاعر والمسرحى محمد محيى الدين فى ذكرى ممارسته للفوضى المثمرة الجميلة
__________

( كتبت اعمالى فى كل مكان ، كتبت مثلا بعض صفحات من ( الوجود و العدم ) على تلة صغيرة فى ( البرفيس ) حين كنت فى رحلة على الدراجة مع سيمون وبوست ، كنت اول من وصل فجلست على الارض فى ظل بعض الصخور وبدأت اكتب ثم وصل الاثنان و جلسا قربى بينما واصلت الكتابة ، من الواضح انى كتبت الكثير فى المقاهى ، مثلا اجزاء كثيرة من رواية ( وقف التنفيذ) و كتاب ( الوجود و العدم ) كتبت فى مقاهى ( لاكوبل و لاثروا موسكيترز ولافلور ) و لكن منذ العام 45 – 1946م حين اقمت مع امى فى 42 شارع بونابرت ثم بعد عام 1962م فى بوليفار راسبيل كنت اكتب غالبا فى مكتبتى ، كذلك كتبت اثناء السفر )
هكذا تحدث الفيلسوف الاديب ( جان بول سارتر ) عن بعض عاداته فى الكتابة حين حاوره ( ميشيل كونتا ) و قد نشرت دار شرقيات للنشر و التوزيع هذا الحوار الممتع فى كتاب بعنوان (صورة شخصية فى السبعينات ) بترجمة من الاستاذ المترجم الراحل احمد عمر شاهين ، التقط هذا الحديث عن عادات الكتابة لهذا الفيلسوف الكبير الذى راهن على الادب كوسيلة لايصال افكاره حول الوجود و العدم و الذى يعتبر الكتابة من اهم شروط وجوده ( لقد اردت ان اكتب عن العالم و عن نفسى وذلك ما فعلته ، اردت ان يقرأنى الاخرون وقد حدث و حين يقرأ كاتب على نطاق واسع تأتى الشهرة ، واتت الشهرة ، هذه هى الحياة التى حلمت بها و انا ولد ، وهكذا لقد حققت تلك الحياة و لكن هناك شيئا اخر لست متأكدا ماهو )
على كل هاهو ( جان بول سارتر ) يعلن انه يكتب فى اى مكان خارج ما يسمى بطقوس الكتابة ، الكتابة تلك العملية المعقدة و التى ينظر اليها البعض بإعتبارها نوعا من الجنون ، نوعا من ذلك الإنفلات وبرغم كل ذلك تحتاج هذه العملية الى نوع من الإلتزام والإنضباط و لكن قد تتمرد تلك الرغبة – رغبة الكتابة او سمها شهوة على قيود الزمان و المكان ، ان تلك التلة الصغيرة فى ( البرفيس ) و التى حرضت ( سارتر ) على الكتابة تقذف بى الى مشهد اعتبر نفسى محظوظا اذ انى حظيت بمشاهدته ، صيف امدرمانى و ليل له مع النسائم و القمر الإبتهاج ، صيف 1986م ، في حى بانت حيث كنت اسكن و معي الاصدقاء السمانى لوال و عبد الله حسب الرسول و كان الصديق الشاعر الراحل المقيم عمر الطيب الدوش ضيفنا الدائم ، فى تلك الليلة القمراء كان عمر الدوش يتألف مع إنفلاته حين داهمته القصيدة ، كنا خارج المنزل و فى طريقنا اليه و فى ميدان بانت جلس عمر الدوش بالقرب من تلة رمل على طرف سوق بانت امام احدى الدكاكين التى كانت تحت الصيانة ، جلس عمرالدوش منتميا الى ضوء القمر الساطع و باصابعه بدأ يمسح على الزمل كتلاميذ الاولية و ليس الابتدائية حين يتعلمون كتابة الحروف على الرمل و باصابع مرتعشة كتب عمر الدوش علي الرمل
((سحابات الهموم يا ليل بكن
بين السكات و القول))
و لم املك انا إلا إرتعاشى الحميم تجاه هذه المدخل الشعرى النقى و الصافى و من حسن الحظ ان جيوبى لا تعدم الورقة و القلم فها هو عمر الدوش يكتب باصابعه على الرمل و انا انقل ما يكتبه على الورقة المزحومة بكتابات اخرى غير مترابطة
(( و باقات النجوم الجن يعزن فى المطر فاتن عزاك رجعن ))
يتدفق الشعر على ذلك الرمل و انا الاحق الكلمات قبل ان تمسحها كف عمر الدوش بتلقائية غريبة كى ينتقل اصبعه السبابة المرتعش بفعل هذا الثقل الجمالى الحميم الى دفقة اخرى من الشعر
((وشوق رؤياك رذاذ صفق على خطوات بنات سجعن))
الم اقل لكم اننى فى تلك الليلة الصيفية المقمرة ، ليلة من تلك الليالى الامدرمانية اننى كنت متحالفا مع الحظ كى اشهد ميلاد هذه القصيدة الجميلة و التى تغنى بها مصطفى سيد احمد كعادته دائما و هو ينحاز الى الشعر الكثيف الجميل.
اخبرنى صديقى القاص الممتع احمد المصطفى الحاج فى حوارى معه لبرنامج ( فضاءات ) لاذاعة البرنامج الثانى انه كتب قصته ( الكترابة ) على الاطراف الفارغة من جريدة يومية و على ضوء القمر ، حدثنى العم الاستاذ بدر الدين محمد عبد الرحيم والد زوجتى عن ان الشاعر العذب عبد المنعم عبد الحى قد كتب قصيدة ( انا امدرمان ) التى تغني بها الفنان احمد المصطفى وهو فى خندق اثناء حرب 1948م ، ولى شخصيا تجربة مع قصيدة احبها جدا ، كنت مضطرا لجلوس ممل فى احدى اجتماعات امانة المسرح الغير مجدية و كان الحديث مكرورا وكنت اتجادل بين إنتباهى و سرحانى ودون ان اشعر انحزت الى موجة خصوصية فى دواخلى و وجدتنى اكتب و بتدفق غريب علي الورقة التى امامي
(( مين علم الوردة إحتضانا للندى ؟
مين علم السحب الرحيل عبر المدى ؟
مين علم الخطوةالحنين
و المشاوير السدى ؟
مين علمك إنتى العذوبة
وسكنك فى الاورده ؟))
و هكذا خرجت بى تلك القصيدة القصيرة الكثيفة من ذلك الملل و التكرار.
ذكرنى حديث ( جان بول سارتر ) عن الاماكن التى كتب فيها بطرفة بطلها الاخ الصديق الشاعر و الكاتب المسرحى محمد محيى الدين فى بداية الثمانينات من القرن المنصرم ، دخل المعهد العالي للموسيقى و المسرح احد اولئك المتباهين بحالة كونهم كتاب و كان المعهد وقتها يضم بين طلابه عددا لا يستهان به من الكتاب فى مختلف ضروب الفن و الادب دون ان يحسوا بأن ممارستهم للكتابة يجب ان تمنحهم اي نوع من التميز و التمايز بين الطلاب ، جاء هذا المتباهى المتضخم الذات الى المعهد وقد داهم عوالم محمد محيى الدين البسيطة و التلقائية بزخم من تلك الاحاديث والبطولات التى هو مركزها ويبدو ان محمد محيى الدين قرر ان يمنح هذا المتضخم المتباهى درسا من خلال (مقلب ) طريف فقد إتفق هذا المتضخم مع محمد محيى الدين على انه سيطالب فى اجتماع الجمعية العمومية للطلاب ان يمنح الطلاب الذين يمارسون الكتابة غرفا خاصة فى الداخلية وذلك لان ممارسة الكتابة تحتاج الي عزلة….. و الخ وحرض محمد محيى الدين ذلك المتضخم المتباهى على تقديم هذا الإقتراح و اكد له انه سيمنح الاقتراح تثنيته فى اجتماع الجمعية العمومية لاتحاد طلاب المعهد العالى للموسيقى و المسرح رفع ذلك المتضخم المتباهى اصبعه طالبا الحديث فى امر مهم و بطريقة لزجة و عبر لغة مقعرة مستعينا ببعض الكلمات الاتجليزية قدم ذلك الاقتراح ولم يثن محمد محيى الدين الاقتراح الذى قوبل من الجمعية العمومية بعاصفة من الضحك و همهمات السخريةو حين انتهى الاجتماع جاء ذلك المتضخم المتباهى الى محمد محيى الدين مشهرا غضبه قائلا
(( ليه يا محمد ما ثنيت الإقتراح الاتفقنا عليه ؟))
فرد عليه محمد محيى الدين
(( إنت مخستك ؟ ، انا بكتب فى اى حته ، فى تندة لورى انا بكتب))

مقالات ذات صلة