*يدق هذا المقال ناقوس الخطر حول الغياب الصارخ للمهندس السوداني والكيانات الهندسية المتخصصة (إتحاد المقاولين، الهيئات الإستشارية، بيوت الخبرة، المجلس الهندسي، وإتحاد المهندسين) عن المشهد الحالي لإعادة إعمار السودان.*
في دهاليز الحديث المتشابك عن إعادة إعمار سودان ما بعد الحرب، يبرز تساؤل يطعن في صميم أي خطة مستقبلية، أين هو العقل الهندسي السوداني؟ وأين تلك القلاع المعرفية والخبراتية المتمثلة في اتحاد المقاولين، الهيئات الاستشارية الهندسية، بيوت الخبرة الوطنية، المجلس الهندسي، واتحاد المهندسين؟ للأسف، المشهد الراهن يشي بغياب شبه تام لدورهم، مما يحول “محكمة” إعادة الإعمار إلى مجرد ورشة ضائعة، تهدد بتبديد الموارد الشحيحة وتعميق جراح الوطن.
إن أي عملية إعادة إعمار حقيقية تستهدف الاستدامة والجودة لا يمكن أن تتم بمعزل عن هذه الكيانات المهنية المتخصصة، فهي ليست مجرد مسميات إدارية، بل هي الشرايين الحيوية التي تضخ المعرفة والخبرة والتخطيط العلمي والعملي الدقيق. فهي الذاكرة الهندسية المتراكمة للبلاد، والضمانة الفنية لتنفيذ المشاريع وفق أعلى المعايير العالمية، بعيدا عن الارتجال والهدر.
لكن ما نشهده اليوم يبعث على القلق العميق، إقصاء غير مبرر أو تجاهل متعمد لهذه الخبرات عن الواجهة. بينما تتوالى لجان الإعمار في التشكيل وتُناقش الخطط على الورق، يظل صوت المهندس خافتا، مهمشا، أو غائبا تماما عن دوائر القرار. هذا الغياب لا يعكس مجرد خلل في التنسيق من قبل الحكومة وهذه الكيانات، بل هو فشل استراتيجي في فهم جوهر عملية البناء، فالهندسة ليست عنصرا ثانويا، بل هي العمود الفقري لأي نهضة عمرانية مستدامة.
إن الاستمرار في تجاهل الدور المحوري للمهندسين في هذه المرحلة المصيرية يعد بمثابة حكم بالإعدام على آمال التعافي، فكيف يمكن أن نتحدث عن بناء مدن ذكية، بنى تحتية مرنة، وشبكات خدمية متكاملة قد تدمرت دون الدراسات الهندسية المعمقة، والإشراف الميداني الصارم من خبراء السودان أنفسهم؟ كيف نضمن أن الأموال المخصصة للإعمار لن تتحول إلى مشاريع هشة أو فاشلة دون رقابة مهنية مستقلة وفاعلة من المهندسين والمقاولين الوطنيين؟
المسؤولية التاريخية تقع على عاتق الحكومة، ممثلة في لجان إعادة الإعمار. لذلك يجب أن يتوقف التركيز الحصري على الجوانب الإدارية والمالية، وأن تُمنح الأولوية القصوى لتفعيل دور الكفاءات الهندسية الوطنية. وهذا يتطلب خطوات فورية لا تحتمل التأجيل، بأن تكون هناك دعوة رسمية وملزمة لجميع الاتحادات والهيئات الهندسية للمشاركة الكاملة والفاعلة في كل مرحلة من مراحل التخطيط، التصميم، والإشراف على التنفيذ، وإنشاء آليات شفافة وغير قابلة للالتفاف لدمج الخبرات الهندسية في جميع لجان الإعمار وصياغة السياسات، مع منحهم سلطة فنية حقيقية، وتخصيص ميزانيات كافية ومستقلة لعمليات الاستشارات الهندسية، الدراسات الفنية، والإشراف الموقعي، بعيدا عن أي ضغوط، وبناء القدرات المحلية وتمكينها، من خلال منح الأولوية المطلقة للشركات الهندسية والمقاولين السودانيين في جميع مشاريع الإعمار.
والأهم من ذلك، لا بد أن تُصدِر الحكومة نداء وطنيا عاجلا لاستدعاء جميع المهندسين السودانيين بالخارج الذين نزحوا قسرا بسبب الحرب. فخبراتهم المتراكمة في بيئات عمل عالمية، بالإضافة إلى معرفتهم العميقة بوطنهم، تمثل ثروة قومية لا تقدر بثمن. كما يجب توفير حوافز وضمانات لعودتهم ومشاركتهم الفاعلة، فهم سفراء المعرفة الذين يجب أن يقودوا هذا الدرب.
إن إعادة إعمار السودان ليست مجرد عملية بناء مادي، وإنما هي إعادة بناء هوية وطن، وتشكيل مستقبل أجيال. وهذا المستقبل لن يكون راسخا ومزدهرا إلا إذا قام على أسس علمية وهندسية قوية، تُبنى بسواعد وعقول أبنائه.
وفي هذا السياق، لا بد أن تتضافر الجهود الإعلامية لدعم هذه الرؤية الجامعة، وأن تركز بشكل حصري على أهمية العمل المشترك والبناء. يجب أن تُنبذ تماما أي محاولات لتصفية الحسابات أو تأجيج الصراعات الجانبية التي لا تخدم سوى تعطيل عجلة الإعمار وتعميق الجرح. يجب أن تكون الرسالة الإعلامية موحدة، داعمة للتعاون، ومُسلطة الضوء على الكفاءات الوطنية.
خلاصة القول، إن عملية إعادة الإعمار هي ملحمة وطنية عظيمة تستوجب تكاتف جميع الأيادي والعقول. يتطلب الأمر صياغة استراتيجية وطنية شاملة لإعادة الإعمار، تتجاوز الجهود المجزأة والنهج التقليدي من أعلى إلى أسفل. يجب أن تكون هذه الاستراتيجية جامعة، بحيث تدمج ليس فقط الهيئات الحكومية والجمعيات المهنية، بل أيضا المجتمعات المحلية، والشركاء الدوليين، ومنظمات المجتمع المدني. هذا النهج المتكامل هو الضامن لأن تكون جهود إعادة الإعمار سليمة من الناحية الفنية، ومقبولة اجتماعيا، ومُدارة بفعالية واستدامة.
فالواجب ينادي، والوطن ينتظر، فهل سيُكتب فصل البناء، أم سيبقى السودان رهين الأنقاض والغياب؟