*إن الحرب المدمرة التي اندلعت في السودان في الخامس عشر من أبريل 2023م، خلّفت وراءها مآسي لا حصر لها. حربٌ بدت في ظاهرها كفوضى مسلحة، اجتاحت المدن وأطاحت بمؤسسات الدولة في الخرطوم العاصمة و عدد من الولايات، وتفككت معها منظومة الأمن والخدمات، وتساقطت معها كثير من القيم الأخلاقية على وقع أصوات الرصاص، وصيحات الانتهاك، والخراب المنظم. غير أن المتأمل في مجريات الحرب، وما رافقها من أحداث جسام، لا يسعه إلا أن يسبر أغوارها ليدرك أنها ليست (حربًا عبثية) كما يحاول البعض الترويج لها ، بل تمثل نموذجًا لحرب هجينة، عشوائية في مظهرها، منهجية في مخبرها.*
*منذ اللحظات الأولى، تميزت الحرب بصور مروعة من القتل، والنهب، والاغتصاب، والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان. لم تسلم الأحياء السكنية، ولا الأسواق، ولا المستشفيات، ولا دور العبادة. شوارع بأكملها تحولت إلى مسارح للنهب العلني، وشاحنات محمّلة بممتلكات المدنيين تجوب المدن بلا وازع ولا رادع، تحت مرأى ومسمع قوات الدعم السريع التي سيطرت على معظم المناطق الحضرية، خاصة في العاصمة الخرطوم ودارفور. بدا المشهد وكأنه انزلاق نحو الهاوية، بلا قيادة، وبلا هدف واضح.*
*لكن ما إن يتبدد غبار الأحداث، وتتضح تفاصيل الوقائع، حتى يظهر للراصد نمطٌ آخر موازٍ لما يجري في السطح. فالمعطيات تشير إلى أن ما بدا كفوضى أمنية، كان في جوهره عملًا ممنهجًا يستهدف تدمير الدولة السودانية في بنيتها العميقة:*
* *لقد تم تدمير للبنية التحتية بصورة مدروسة، حيث تعرّضت المرافق العامة، من محطات الكهرباء، إلى شبكات المياه، للتدمير أو التعطيل الكامل. خطوط النقل والطاقة تعرضت للنهب والتفكيك، في نمط لا يمكن نسبته إلى سلوك عفوي أو فردي، بل يؤشر إلى تدخل فاعلين محترفين يعرفون جيدًا ماذا يفعلون وأين يضربون.*
* *وتعرضت المؤسسات و الرموز الثقافية، كالمتاحف، إلى التخريب المتعمد مما يؤكد استهدافها المبرمج مسبقاً، حيث جرى تحطيمها أو نهب محتوياتها، ما يكشف نية طمس الذاكرة التاريخية والهوية الوطنية للسودان.*
* *و لم تسلم المستشفيات والمرافق الصحية من التخريب، فشملت الحرب تدميرًا لمرافق الصحة العامة، مع نهب ممنهج لأجهزتها ومعداتها الطبية، التي نُقلت إلى خارج السودان، بما يثبت ضلوع جهات منظمة في هذا السلوك.*
* *فضلاً عن ذلك، فقد تم تخريب المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية، كما تم تفكيك المعامل، وتدمير قاعات المحاضرات، ونُهبت المحتويات في مشهد يؤكد استهداف مستقبل البلاد وموردها البشري الأكبر.*
* *كذلك تمت سرقة الكوابل النحاسية من الأرض والمباني، بطريقة تؤكد تورط جهات محترفة، أُزيلت كميات مهولة من الكوابل الكهربائية، خاصة النحاس، من باطن الأرض ومن المباني والمؤسسات، وتم شحنها إلى خارج البلاد عبر مسارات لوجستية تؤكد وجود شبكات نقل ودول متواطئة في هذه الحرب.*
* *أما تدمير الطرق والجسور، فقد اختُيرت طرق رئيسية وجسور استراتيجية لتدميرها أو تفجيرها، لإضعاف الربط الجغرافي بين أجزاء السودان، خاصة العاصمة وبقية الأقاليم.*
*إن هذه الحرب رغم مشاهد الدم و الدمار و الفوضى و عشوائية مظهرها ، لكنها كانت أداة إستراتيجية ممنهجة و مدروسة في حقيقة مخبرها، لقد كان هذا التدمير مرتباً ومنظماً، وقامت به شركات وجهات وعصابات محترفة، تنتمي إلى كارتيلات الحروب وتجار الأزمات، ممن يمتلكون أدوات التخريب، وشبكات التهريب، وخرائط الاستثمار في الدمار. لم تكن جريمة عبثية أو غنيمة عابرة، بل كانت عملية هندسة عكسية لدولة تُفكّك أمام أعين العالم، بخطط معقدة، وأدوات تنفيذ دقيقة.*
*كل ما سبق جرى في مناطق كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ما يجعل مسؤوليتها في ذلك مباشرة، ويُثبت ضلوعها، سواء بالفعل أو بالإشراف، في جريمة تخريب الوطن.*
*لم يكن ما حدث في السودان استثناءً معزولًا، بل هو امتداد لنمط حروب خفية عرفها العالم مؤخرًا، و هناك نماذج لحروب ذات طابع مشابه، منها على سبيل المثال:*
* *(العراق) بعد الغزو (2003م)، حيث سُرقت المتاحف، ونُهبت مؤسسات الدولة، ودُمرت البنية التحتية بطريقة ممنهجة، رغم سقوط النظام، مما أثار اتهامات بتورط قوى خارجية في صناعة فوضى مدمرة.*
* *كذلك نجد أن ليبيا بعد إسقاط القذافي، تحولت فيها الدولة إلى غنيمة مسروقة، ونهبت مصانع الدولة، وظهرت شبكات تهريب النفط والسلاح برعاية إقليمية.*
* *أما (سوريا) في بدايات الحرب، عمدت فيها بعض المليشيات إلى تفكيك المنشآت، وتهريب آثارها، وتفخيخ الجسور وخطوط المياه، في نمط يعكس نوايا تتجاوز إسقاط النظام إلى تدمير الدولة.*
*من الثابت أن الحرب فقدت كل معاني الشرف العسكري. فقوات الدعم السريع مارست انتهاكات ممنهجة، وعمليات نهب وتخريب دون وازع ديني أو وطني أو إنساني، وكل من ساندها وسهّل لها العمل أو وفر لها الغطاء السياسي والمالي، يتحمل ذات القدر من المسؤولية الأخلاقية والقانونية. لقد تحوّل المدنيون إلى أهداف مباشرة، والمؤسسات إلى غنائم، والوطن إلى ساحة تجريب لمن لا يؤمنون بفكرة الدولة، لقد اثبتت هذه الحرب انعدام الأخلاق عند الفاعلين وداعميهم .*
*رغم بشاعة ما جرى ويجري من دمار ممنهج، وصور الخراب التي نُقلت بالصوت والصورة من قلب المدن السودانية ، فقد التزم المجتمع الدولي للأسف صمتًا مريبًا أقرب إلى التواطؤ منه إلى الحياد. فلم تصدر إدانات واضحة أو مواقف حازمة تُحمّل المسؤولية لمرتكبي هذه الجرائم، سواء من الفاعلين المحليين، أو الإقليميين، أو أولئك الذين سهّلوا النقل والتمويل والتهريب. لقد قصد النظام الدولي أو فشل في أن يميّز بين الجلاد والضحية، وسمح لقوى التخريب أن تعبث ببلد بأكمله دون محاسبة. هذا الصمت، في حقيقته، ليس مجرد تقاعس، بل هو مشاركة سلبية في الجريمة، تعكس اختلالًا خطيرًا في ميزان العدالة، وتمنح الفاعلين مزيدًا من الجرأة للاستمرار في العبث بمصير الشعوب، إن هذا الصمت البين من المجتمع الدولي هو دون شك تواطؤ بالصمت وعجز بالإرادة.*
*كل المؤشرات تدل على أن السودان لم يكن طرفًا فقط في هذه الحرب، بل كان هدفًا مقصودًا. المستهدف هو الإنسان السوداني، وتفتيت أرضه، وتفريغ دولته، وتحويله إلى بلد هش قابل للهيمنة والابتزاز والتمزيق. لا يمكن النظر إلى هذا الخراب كنتاج صراع داخلي فحسب، بل كخطة ذات أبعاد إقليمية ودولية تسعى لإعادة تشكيل السودان بما يتوافق مع أجندات الغير، لا مصالح شعبه.*
*إن الصمت الدولي تجاه ما جرى ويجري في السودان لا يجب أن يُقابل بالصمت من أبناء السودان أنفسهم، ولا من الضمائر الحية في هذا العالم. لقد تجاوز الأمر حدود الخلافات السياسية إلى استهداف مُمَنهج لشعبٍ بأكمله، وتفكيك دولةٍ بوعيٍ مبيّت. وعليه، فإننا :*
* *ندعو المجتمع الدولي، بكل مؤسساته الأممية والإقليمية ومنظماته الحقوقية، إلى مغادرة مربع الإدانة اللفظية إلى ساحة الفعل الحقيقي، عبر تحقيقات مستقلة، ومساءلة جادة، ودعم عاجل لحماية المدنيين، والحفاظ على ما تبقى من كيان الدولة السودانية.*
* *و نطالب الدول الداعمة للسلام، إلى إعادة النظر في مواقفها الرمادية، والضغط على الأطراف الإقليمية المتورطة، ووقف أي دعم مباشر أو غير مباشر يغذي آلة الخراب.*
* *أما القوى الوطنية السودانية، فنحثها إلى تجاوز خلافاتها، والانخراط في جبهة وطنية موحدة، تضع حماية الوطن في مقدمة الأولويات، وتنتصر لمشروع الدولة، لا مشاريع المليشيا والسلاح والارتزاق.*
*فما لم يتحرك الضمير العالمي، وتتوحد الإرادة الوطنية، فإن ما جرى في السودان لن يكون إلا بداية لخراب قد يمتد ويعيد رسم خارطة المنطقة على حساب شعب أعزل، يتعرض للإبادة الناعمة على مرأى ومسمع الجميع.*
*ليست هذه الحرب كغيرها، وليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالين، بل هي حرب تستهدف كل ما هو سوداني. إن ما يبدو من فوضى وسرقات وتخريب، يخفي خلفه عقلًا باردًا يخطط، وينفّذ، ويرسم الخرائط القادمة. وإذا لم يتنبه السودانيون، ويوقفوا هذا التدمير المنهجي، فإن الوطن كله قد يتحول إلى ركام قد لا يجد من يرفعه.*
*الجمعة 25 يوليو 2025م*