في خضم الفوضى السياسية والعسكرية التي تعصف بالسودان، أصدر الحزب الشيوعي السوداني بياناً بتاريخ 29 يوليو حول إعلان الحكومة الموازية جاء البيان كعادة الحزب الشيوعي في لغة حادة ومواقف صارمة.. لكن ما بين السطور
يكشف البيان عن تناقضات فكرية وسياسية صارخة تناقض مواقف الحزب السابقة وتعيد إنتاج نفس الأخطاء التي ساهمت في تعقيد المشهد الوطني..
الحزب في بيانه يرفض ما يسميه الحكومتين غير الشرعيتين، ويستند في رفضه على انقلاب 25 أكتوبر 2021.. وهو ما يمكن تفهمه نظريا لو كان الحزب ثابتا في منطقه.. لكنه يتجاهل أنه تعاون في فترات متعددة بشكل مباشر أو غير مباشر، مع قوى انقلابية أو نظم تسلطية طالما تتقاطع مع مصالحه المرحلية..
لن نعود الي تاريخ نظام مايو ولكن سنأخذ على سبيل المثال وخلال الفترة الانتقالية بعد سقوط الكيزان رفض الحزب الدخول في الحكومة لكنه لم يرفض شرعيتها حين كانت قوى اعلان الحرية والتغيير بما فيها الحزب الشيوعي نفسه متحالفة مع العسكر الذين جاءوا من رحم نفس المنظومة الأمنية للإنقاذ حسب وصف الحزب في اوقات سابقة.. بل ذهب الحزب أبعد من ذلك وشارك في لجان عديدة وتحالفات ميدانية مع تلك القوى.. وكان أحد منسوبيه واليا في ولاية الجزيرة.. وايضا اجتماعه برئيس وزراء تلك الفترة الانتقالية د. عبدالله حمدوك ومطالبته بعدم المساس بعضوية الحزب المعينين في مؤسسات الدولة رغم علمه أن الحكومة الانتقالية آنذاك أيضا لم تحظ بتفويض انتخابي شعبي واضح..
هذه انتقائية صارخة يمارسها الحزب في تعريفه للشرعية، ويستبدلها بالولاء الأيديولوجي والتموضع السياسي الظرفي..
كما هاجم بيان الحزب الشيوعي بند تقرير المصير في ميثاق تأسيس (تحالف عصابة الجنجويد).. ووصفه بأنه يهدد وحدة البلاد ويعيد سيناريو نيفاشا.. ورغم اني اتفق مع هذا الرأي الا ان الحزب الشيوعي ينسى أو يتناسى أن الحزب نفسه كان أول من أيد حق تقرير المصير للجنوب في تسعينات القرن الماضي بل وطرحه بوضوح في مؤتمراته وبرامجه السياسية كحق ديمقراطي أصيل.. ألم يكن هذا الطرح نفس المبرر الذي استخدم في اتفاقية نيفاشا؟!!.. ألم يكن موقف الحزب الداعم لتقرير المصير من حيث المبدأ أحد مدخلات الانفصال الذي يندد به اليوم..
لا يمكن للحزب الشيوعي الهروب من هذا التناقض.. إما أن يكون تقرير المصير مبدأً ديمقراطيا يحترم.. أو أن يكون خطرا يهدد وحدة البلاد.. لا يمكن استخدام مواقفك كسلاح سياسي حسب المصلحة..
أيضا البيان يحمل طرفي الحرب الجيش ومليشيا الدعم السريع المسؤولية الكاملة عن الكارثة الإنسانية والسياسية.. وهذا حديث في محله، لكنه يتجاهل عمدا الدور الذي لعبته النخب المدنية ومن ضمنها الحزب الشيوعي نفسه في خلق بيئة الفوضى..
بعد ان كان الحزب جزءا من قوى الحرية والتغيير ونتيجة لخلافات داخلية في الرؤى والمواقف خرج الحزب من قوى الحرية والتغيير ثم هاجم كل من يشارك في الحكومة الانتقالية رغم أنه كان جزءا من كل تفاصيل تعيينها ومداولات الترشيحات فيها.. كل هذا فضلا عن غياب أي رؤية واقعية قابلة للتنفيذ بخلاف الخطابات الراديكالية المعزولة عن الشارع.. واستخدام الخطاب الثوري بشكل شعاراتي دون تقديم أدوات واضحة لتفكيك بنية الدولة العميقة أو التعامل مع تعقيدات الواقع الأمني والاقتصادي..
لكل ذلك لا يمكن أن تكتمل صورة المشهد بدون تحميل القوى السياسية المدنية بما فيها الحزب الشيوعي نفسه مسؤولية الانقسام السياسي والاجتماعي ابان الفترة الانتقالية وفشل الانتقال..
حسب البيان فان الحزب يرفض أي تسوية تعيد إنتاج الأزمة والحرب.. وفي ذات البيان يعترف بأن التسوية قد توقف الحرب. هذا تناقض صريح.. إذا كانت التسوية قادرة على وقف الحرب ألا تستحق أن تمنح فرصة كمرحلة أولى..
حزب سياسي يرفض التسوية من حيث المبدأ فهو إذن يرفض ان يكون سياسيا، ثم يضع شروطا تفصيلية لما يجب أن تتضمنه التسوية.. على الحزب الشيوعي إما أن يرفض التسوية بالكامل وبالتالي يضع خطة بديلة عملية أو أن يدخل في التسوية والتفاوض لتعديلها لا نسفها..
البيان الشيوعي جاء مليئا بالاستخدام الانفعالي للتاريخ والصيغ الكبرى دون تحليل منهجي.. البيان مليء بمقولات وشعارات مثل “الصراع بين أقطاب الرأسمالية العالمية”، “خطة ترامب”، “الشرق الأوسط الكبير”، “تصفية القضية الفلسطينية”..
كل هذه مفاهيم ذات طابع أممي.. لكن استخدامها في البيان هو مجرد ديكور بلاغي دون تفكيك علمي حقيقي لكيفية تأثيرها على الأزمة السودانية تحديدا..
ما هي آليات “خطة ترامب” المؤثرة على دارفور مثلا؟!
ما هو الرابط المباشر بين “إبادة الفلسطينيين” و”حكومة بورتسودان أو نيالا؟!
الإفراط في التنظير الكوني والأممي بدون ربطه بتحليل مادي ملموس يفقد الخطاب مصداقيته ويجعله أقرب إلى التهويم السياسي..
في العموم بيان الحزب الشيوعي رغم احتوائه على نقاط نقدية صحيحة حول الحرب والانقسام وخطر التدخلات الأجنبية إلا أنه يعاني من تناقضات فكرية وسياسية مع مواقفه السابقة.. ويفتقر لبدائل عملية قابلة للتطبيق.. هذا فضلا عن التوظيف الانتقائي للمبادئ كالشرعية وتقرير المصير.. وسطحية التحليل للمشهد الدولي والإقليمي.. وانفصال الخطاب عن واقع الشارع والمجتمع..
وبالتالي فان البيان في رأيي هو تعبير عن عجز أيديولوجي وسياسي لهذا الحزب مغطى بلغة ثورية صارخة.. دون أي قدرة على التغيير الفعلي..
إذا أراد الحزب الشيوعي أو اي حزب او تحالف سياسي أن تستمع إليه الجماهير ويستطيع التأثير عليها فليبدأ بمراجعة مواقفه قبل محاكمة الآخرين وليقدم خطابا متزنا وحلول واقعية قابلة للتطبيق العملي لا تخريفات سياسية لا علاقة لها بالواقع..
وائل عبدالخالق مالك
#جيش_واحد_شعب_واحد
#مافي_مليشيا_بتحكم_دولة
#ضد_الجنجويد
#حكومة_الأمل
#جيشنا