في عالم يزداد فيه القمع ضد الصحافة الحرة وتتصاعد فيه موجات العنف ضد من يحملون الكلمة الحقة، تُعلن المنظمات الدولية التي تجمع الصحفيين وتدعي الدفاع عن حقوقهم بأنها الملاذ والدرع الحامي لهم. من المفترض أن تكون هذه الهيئات هي الحصن المنيع الذي يحمي الصحفيين أينما كانوا، خاصة أولئك الذين أُجبروا على مغادرة أوطانهم خشية الاعتقال أو القتل أو التعذيب.
لكن الحقيقة التي يكشفها الواقع، وتعايشها أعداد لا حصر لها من الصحفيين السودانيين وغيرهم حول العالم، هي كابوسٌ مدمر يفضح هشاشة هذه الوعود ويفضح غياب الحماية الحقيقية.
عندما تفرّ من وطنك بعد أن استُهدفت عائلتك، عندما يُصبح البقاء خطرًا على حياتك وحياة من تحب، لا تملك خيارًا سوى الرحيل، لا من أجل المتعة ولا من أجل الرفاهية، بل دفاعًا عن حياتك وكرامتك وأمنك النفسي. هذا ليس هروبًا جبانًا، بل هو قرار حتمي تحت وطأة حرب لا ترحم.
لكن المأساة لا تتوقف عند هذا الحد. فحين يلتجئ الصحفي السوداني إلى المنفى، ظنًا منه أن الأمان بات قريبًا، يجد نفسه محاصرًا بين ضغوط سياسية متزايدة، مراقبة دقيقة، وملاحقات أمنية لا هوادة فيها من قبل دول تستضيفه. ما كان يفترض أن يكون ملجأً يتحول إلى سجن جديد، وحالة تهديد مستمرة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تركها في وطنه.
في هذا الظرف المأساوي، تأتي المنظمات الدولية لتطلب منه تقديم معلومات حساسة وسرية: أسماء مصادره، تفاصيل تحقيقاته، مواقفه الشخصية والعائلية، وهي بيانات تم تسليمها لهؤلاء المفترض أنهم حماة له. لكنه سرعان ما يكتشف أن هذه المعلومات تُدار بشكل فوضوي، تُسرّب بلا رحمة، أو تُستخدم كورقة ضغط في معارك سياسية لا علاقة له بها، وغالبًا ما تصل إلى جهات تهدده بشكل مباشر.
هذه الفجوة العميقة بين ما يُعلن وما يُمارس، تتحول إلى جريمة بشعة ضد الصحفيين. يصبح الصحفي هو الضحية الأولى والأخيرة، يطرد من وطنه، ويُترك وحيدًا في المنفى، مكشوفًا أمام تهديدات أكبر من التي هرب منها.
وعندما يصرخ صحفي طالبًا الحماية أو النقل إلى مكان آمن، لا يطلب رفاهية أو ترفًا، بل ينادي من أجل حياته، من أجل حريته، من أجل عدم الوقوع فريسة للاعتقال أو الجنون تحت وطأة الضغط النفسي والتهديد المستمر. يجب أن يكون هذا النداء هو الأولوية القصوى لأي منظمة تدعي الدفاع عن حقوق الصحفيين، لا أن يُقابل بالصمت أو التجاهل أو الاستخفاف.
الصحفي السوداني الذي فر من الحرب لم يكن جبانًا، بل كان يحمي أسرته وكرامته في وجه عدوان بلا رحمة. من يستصغر هذا الواقع أو يهاجمهم من بعيد، لم يعش هذه المعاناة، ولم يشهد كيف تحولت حياتهم إلى دوامة من الخوف والقلق.
إن المنظمات الدولية التي يفترض أن تكون منقذة، كثيرًا ما تتحول إلى عقبة، أو إلى مؤسسات جامدة لا تقدم سوى بيانات روتينية، ووعود كاذبة، تُغطي على إخفاقات فادحة في حماية من وضعوا ثقتهم فيها.
في ضوء هذا الواقع المرير، لا بد من مطالبة هذه المنظمات بمحاسبة حقيقية، شفافية مطلقة، والتزام جاد بحماية أرواح الصحفيين وخصوصياتهم. لا يكفي أن تكون هناك بيانات وتصريحات إعلامية، بل يجب أن تُفرض آليات صارمة تضمن سرية المعلومات، وحماية حقيقية، ومتابعة مستمرة.
في الوقت ذاته، يتحمل الصحفيون مسؤولية وعي كبيرة في حماية أنفسهم. يجب ألا يقدموا معلوماتهم إلا لمن يثقون به تمامًا، ويطالبوا بمعرفة مصير كل معلومة يُسلمونها، وكيف تُستخدم، ومن يمكنه الوصول إليها.
لا حماية حقيقية إلا بوعي الصحفيين أنفسهم، وبقوانين محلية ودولية صارمة تحفظ لهم حقوقهم، وكرامتهم، وأمنهم.
الصحفي ليس لعبة في أيدي من لا تعنيهم سوى مصالحهم السياسية أو مصالح دولهم، بل إنسان يملك حق الحياة والكرامة والحماية.
حتى لا نصبح ضحايا لعبة دولية لا نعرف قواعدها، علينا أن نصرخ، أن نطالب، أن نحمي أنفسنا، وأن نحمل هذه المنظمات مسؤولية كل خطر يتهدد حياة من يمثلونهم.
صوت الصحفيين السودانيين، وكل صحفي حر، لن يُكتم، وسيظل المدافع الأول عن الحق والكرامة والحرية، ولن يهدأ حتى يتحقق لهم الأمان الحقيقي الذي يستحقونه .