ما نراه اليوم على منصات التواصل في السودان ليس ترفيهاً بريئاً ولا اجتياحاً
ثقافياً؛ إنه صناعة متعمدة للفضيحة تُسوّق باللايكات والمشاهدات. من يطلّون علينا بلقب “مؤثرين” هم في كثير من الحالات نسخة مطوّرة من القونات: نفس الفراغ الداخلي، نفس الجوع للاعتراف، نفس الرغبة في الظهور بأي ثمن، لكن بزينة رقمية جديدة. فرق واحد فقط: القونة في الحفلات تصرخ بالهراء وتنبح على منصة حية لترويج الانحاط والفضائح والمؤثرة الحديثة الهي نفس القوه بس بأسم اخر تبيع روحها وسمعة الآخرين على منصة افتراضية. النتيجة واحدة: سعرٌ يُدفع على حساب كرامة الناس ووعي الأطفال
الفضيحة اليوم لم تعد طارئة. أصبحت استراتيجية ربح. يُطلَق شجارٌ مصطنع، تُسجَّل مُقتطفات تباع على أنها “لحظات حقيقية”، وتبدأ آلة التصفيق المستور بالعمل: شبكات إعادة النشر، حسابات ترفع التفاعل، مجموعات تشترى الشهرة بصناعة ترندات. كل لايك، كل مشاهدة، كل تعليق هو عملة تُصرف. والعملة هنا ليست مجرد أرقام—هي ربح مباشر لمن يبيعون القبح، واستنزاف نفسٍ للمجتمع الذي يستهلكه بلا وعي.
حين تفلس “المؤثرة ،او القونه” ويخبو بريق حسابها، لا تبحث عن محتوى يرقّي أو مشروع يُنتج قيمة؛ تصرخ أكثر، ترفع سقف الشتائم، تطلق ابتزالاً لفظياً، وتستخدم جسد أو سمعة آخر كقابلة لعطف الجمهور. الصراخ يصبح “استراتيجية إنعاش” للمشاهدات. وهنا تختصر الحقيقة: الصراخ يُباع، والفضيحة تُثمّن، والضمير يُؤجّر لأجل حملة ترويجية. ليس هذا تعبيراً عن حرية رأي بقدر ما هو تجارة رخيصة تُمارس على مرأي ومسمع ماتمسي بوزارة الثقافة
من الناحية النفسية، التحوّل إلى بائع فضائح ليس صدفة، بل نتيجة تراكم أمراض: عقد نقص عميقة، نرجسية مبنية على النظام الرقمي، واعتماد على المكافأة الفورية. الإعجاب الرقمي يطلق هرمونات تشبه إدمان المخدر: كل لايك يعطى جرعة مؤقتة من الاعتراف، وكل تراجع في التفاعل يعني “سقوطاً” يدفع صاحب الحساب إلى جرعة أقوى—بث أقوى، عري أكثر، اتهامات أو تشهير أشد. الفضاء الرقمي صار غرفة انعكاس مبالغ فيها، تجعل من الفرد متعطشاً باستمرار لتأكيد وجوده عبر مقياس ظاهري.
الأمر هنا أبعد من مرض فردي؛ هو تعليم جماعي. الأطفال والمراهقون الذين يشاهدون هذه السيل من الشتائم والفضائح يتعلّمون أن الصراخ قوة، وأن الشهرة تُقاس بعدد القذف بالكلمات لا بوزن العمل. تتكون لديهم صورة مشوهة عن المرأة والرجولة وعن الوطن نفسه: الوطنية تتحول إلى لافتة يُلوّحون بها حين تحتاج المشاهد، والاحترام يصبح سلعة قابلة للتصرف بهذا الكون عند لقاء الجمهور. إننا نزرع جيلاً يتعامل مع المشاعر كسلع، ويقيس نجاحه بمصابيح الإضاءة الافتراضية لا بمدى تأثيره الحقيقي في مجتمعٍ يتألم.
والأخطر من ذلك كله أن هذه الدائرة تدار وتُموَّل. هناك أصابع تُصفّق من خلف الشاشات: حسابات تُشغّل التريندات، مجموعات تبادل نشر، شبكات تصفيق فيسبوكية ترفع المشاهدات عمداً، حتى يبدو الأمر كحركة غير مقصودة . هذا التصفيق المستور ليس براءة؛ هو تمويل معنوي واقتصادي لاقتصاد الفضائح. وفي سوق كهذا، تُصير الشجاعة الحقيقية هي من يصنع محتوى يرفع الوعي بدل أن يطعن في كرامة الناس.
ثم هناك الابتزاز: رسائل “حصرية” وتهديدات بنشر مقاطع خاصة إن لم تُدفع مبالغ أو تُقدّم خدمة. وكون القوانين الرقمية هشّة والرقابة غائبة، يصبح الفضاء الافتراضي ساحة للاقتتال على السمعة، لا للحوار. المتهم يتحول إلى سلعة تُشوَّه، والأسرة تدفع ثمن فضيحة يُباعها آخرون كمنتج ترفيهي.
لا غلط هنا أن نشير إلى تحويط سوق الغناء الهابط الذي انهار كمثال: عندما يخبو سوقٌ سباق للفضيحة، يبحث العاملون فيه عن بديل. ومن لم يملك أدوات الإبداع أو رسالة حقيقية، يرجع إلى ما يعرف—إثارة الجمهور، صراخ، وفضائح تُبثّ مباشرة. الفرق فقط أن الكاميرا الآن لا تُنسى، والمشاهدة تُصبح رصيداً يُصرف.
ماذا نفعل؟ هذا السؤال لم يعد نقاشًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة حماية وطنية واجتماعية:
أولاً، على كل ولي أمر أن يتحول إلى مدافع رقمي عن طفله. المراقبة ليست ترفًا بل حماية فعّالة. ما يُعرض في ساعة يمكن أن يُشكّل ذاكرة سامة لسنوات. لا تترك الهاتف بلا رقابة، لا تقنّع نفسك بأن “هذا أمر طبيعي”، لأن الطبيعي هنا يصبح عاراً على المستقبل.
ثانياً، على منصات التواصل أن تتحمّل مسؤولياتها: آليات إبلاغ سريعة وشفافة، سياسات صارمة ضد الابتزال والتشهير، أدوات لمنع تداول المحتوى الذي يستهدف الافراد أو يروّج للعُري والشتيمة كوسيلة جذب. الإعجابات لا تبرر عقلية القتل الرمزي للكرامة.
ثالثاً، يجب أن يكون هناك ضغط مدني ونقابي: منظمات المجتمع المدني، الصحافة المهنية، والنقابات الثقافية مطالبة بفضح اقتصاد اللايكات وفضح الذي يغذي هذه الظاهرة، والعمل على برامج بديلة لدعم المحتوى الهادف والفن المنتج الذي يرفع من وعي الجمهور ويولّد فرص عمل عالمية وذات قيمة.
رابعاً، التشريع مطلوب—حماية للسمعة والطفولة وحقوق الإنسان في الفضاء الرقمي. قوانين رادعة للابتزاز الإلكتروني والتشهير، ومسارات قانونية واضحة للضحايا، ليست رفاهية بل ضرورة في زمن تُقاس فيه الكرامة بعدد المشاهدات.
خامساً، على كل “مؤثر” حقيقي أن يعلن موقفه: هل نريد تأثيراً يبني أم تأثيراً يهدم؟ المواجهة وجهًا لوجه أفضل من بث مباشر يباع فيه الآخر كترفيه. إن كان الحديث جادًا فلتكن الندوات، ولتكن المؤسسات، ولتكن الوجوه مسؤولة عن كلماتها.
الخطر اليوم أن ندفع ثمن الحرب مرتين: مرة بدماء شبابنا على الأرض، ومرة بقلوب أطفالنا في البيوت حيث تُستبدل القيم بالفضائح. إن لم نوقف آلة استرزاق الفضائح الآن، فإننا لا نُسقط فقط قيمة الكلام، بل نُسقط قيمة الإنسان نفسه أمام أعين أجيالٍ تترعرع على الفضاء الافتراضي.
التصفيق ونبش المستور لن يبقى بريئًا. كل لايك يُعطي دفعة جديدة لمن يستبيحون الخصوصية والقيم. كل مشاهدة هي صوت في ميزان من يشتري الفضائح. فهل سنبقى متفرجين؟ أم سنتحرك ، منظمات، منصات، وقانون—لنجعل من الفضاء الرقمي مكانًا يؤدّي دورًا إنسانيًا بنَّاءً، لا متنفسًا للنباح والفضيحة؟ السودان لا يحتمل حربًا على الأرض وحربًا على الأخلاق في آنٍ واحد؛ من يتفهم هذا يقف الآن، قبل أن نركن إلى جيلٍ فقد كل معنى للكرامة.