رأينا الحركة الشعبية عضت على نواجذ “جنوبية” الجنوبي في أول سانحة طرأت لها لاستثمار ظلامته من رق الشمال لأسلافه. وكان ذلك دساً غليظاً في الأمة لم تكترث إن اتفق مع دعوتها للسودان الجديد الذي يسع الشمال والجنوب. وكان ذلك بخلاف ما أراده عبد الخالق محجوب بكلمته في مؤتمر المائدة المستديرة التي أخذ فيها الجنوبي من “جنوبيته” المظلومة من الماضي مع الشمال إلى زمالة في مخاطرة في تاريخ آخر.
أما شماليو “الحركة الشعبية”، في مصطلح ضياء الدين البلال، فكان لهم شأن آخر مع جنوبية الجنوبي. فلم يتفقوا مع الحركة الشعبية في التربح منها لقضية معارضتهم للنظم الحاكمة في الشمال فحسب، بل زادوا أيضاً بأن رهنوا الجنوبي بالحركة الشعبية لتحرير السودان دون حتى أي حركة جنوبية أخرى. فالحركة الشعبية عندهم على “المقعد الصائب والصحيح” من المسألة كما كان يصف كيم إل سونغ، الزعيم الكوري المحبوب لثلاثين مليون كوري، موقفه الذي اعتزل فيه الصراع السوفيتي الصيني في الستينات. فالجنوبي إما حركة شعبية، أو مرتكب كبيرة بحق قضية الجنوب والسودان الجديد معاً.
وتضررت مجموعة الناصر التي خرجت على قيادة العقيد جون قرنق في 1991 أبلغ الضرر من مغبة رهن شمالي الحركة للجنوبي بالحركة الشعبية وزعيمها. فيكفي القول، حتى قبل التفصيل، أنهم رفضوا قبول المجموعة في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، الذي في زعامته جون قرنق، كفصيل ذي حيثية لأنه خرج على الحركة الشعبية.
توفرت لنا في التسعينات كتابات ممن خرجوا من الحركة الشعبية بعد أن ابتلوها ولم تتفق لهم. وسميت جنس تلك الكتابات “الخروج بغصة” منها بعد أن كانت سرتهم حيناً. فصدر مؤلف للام أكول، الأستاذ السابق بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم وعضو القيادة العسكرية العليا من الحركة الشعبية منذ 1988 حتى خروجه منها في 1991، ووزير النقل الحالي في الحكومة السودانية. وعنوان مؤلفه هو “الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان: داخل ثورة أفريقية” الذي صدر في الإنجليزية عام 2001 بالخرطوم. أما الكتاب الآخر فهو “نزاع السودان” الذي خطه قلم محمد هارون كافي، الكاتب المشغول بثقافة شعب النوبة في وسط غرب السودان، والذي أنضمّ للحركة في عام 1986 وخرج عنها في عام 1996. وقد صدر الكتاب في الخرطوم عام 1989.
وكتاب لام صادر عن فكر قسيم وعاطفة رحيمة. فلم يجعل الكاتب خلافه مع العقيد قرنق أكبر همه فينشغل به عما عداه فيمل القارئ. فلم يتطرق إلى الوقائع المخصوصة التي أدت إلى خروجه من الحركة. وبدا لي أنه خشي أن يدخل في لجاج الخصومة فيحمّل القارئ عبء الحكم له أو عليه. وكبديل لذلك أختار الكاتب أن يحكي قصة الحركة الشعبية من ألفها إلى يائها ليعين القارئ لا لفهم خلافه مع قرنق وحسب، بل أيضاً لفهم هذه الثورة الأفريقية المشروعة: أشواقها، بسالتها، مواقعها، ومنعطفاتها.
فلم ينتهز سانحة خلافه مع قرنق للتهوين من الحركة أو تبخيسها على أن الخصم هو الذي على رأسها. فواضح أن لام قصد إلى القول أن إدارة ظهره للحركة في الملابسات المعروفة لا تعني تنصله عن المعاني الغراء التي في أصل بواعثها. وسيخرج قارئ لام وهو أكثر احتراماً للحركة وفهماً لمتاعبها من أولئك الذين يروجون لها بالحق والباطل. وأهم من هذا كله سيقف القارئ على كدحنا جميعا لبناء وطن أفضل بأثمان باهظة ومنها الفجيعة في رفاق الصحوة والحلم والثورة.
يرد لام مأزق الحركة الشعبية الي عاهة في منشأها. وقد جاء في هذا بمثل حي لإصرار امليكار كابرال، زعيم حركة الاستقلال المسلحة في غينيا بيساو، ألا تتحول حركته، التي وصفها بأنها جماعة ثورية مسلحة، إلى مجرد عصبة من المسلحين. ومنشأ ومآل الحركة الشعبية، في رواية لام، مثل حي لما حذّر منه كابرال. فقد بدأت الحركة، أو كادت كحركة سياسية ثم استأثر بها، وهي في المهد، العسكر بقيادة قرنق. وقد وقعت هذه العسكرة، وبنظر لام، عبر ثلاثة تطورات مهمة. وهي:
1) القضاء على العنصر المدني السياسي في بدايات الحركة فيما بين مايو 1983 ومارس 1984.
2) تجميد قرنق للقيادة السياسية وتنصل الحركة عن ميثاقها التأسيسي.
3) وتمكن العالم الكافكي (نسبة إلى كافكا، الكاتب التشيكي المشهور) لقرنق في الحركة وهو عالم يغرب الناس عن واقعهم بهدف إخضاعهم لإرادة غالبة.
وخرج للخارجين شماليو الحركة أذاقوهم الأمرين حتى سماهم كافي في كتابه ب”التقدميين جزافاً”. ووقع لام أكول في لسان منصور خالد فسلقه لخطيئته التي لا تغتفر في الكفر بقرنق والتمرد عليه في كتابه “نداء من أجل الديمقراطية” (1992) في السودان الذي هو الطبعة الثانية المنقحة المزيدة لكتابه المعنون جون قرنق يتحدث (1987).
وهو كتاب خالٍ من المروءة لكاتب ما انفك يسألنا نحن السودانيين الشماليين بالتحلي بعمق الذاكرة في مواجهة ما اسماه بعارنا السياسي حيال الجنوب حتى نقوّم اعوجاجنا الثقافي والتاريخي بشجاعة. فقد تفادى الكتاب الذاكرة المشوبة وراء خروج لام ومشار من الحركة الشعبية. وانحدر إلى درك معلوم في تنزيه الزعيم، العقيد قرنق، عن المماثلة والتحدي من مثل ما كان ينشر عن الزعيم كيم ايل سونغ في إعلانات شغلت الصحف العربية والأجنبية دهراً طويلاً. فقول منصور إنّ انقسام الناصر لم يهز جنان قرنق الذي ظل “ثابتاً على دفة المركب” هو من دارج أدبيات كيم إيل سونغ.
واستنكر منصور على لام وريك مشار، رفيق لام في الانقسام، الحديث عن الديمقراطية بينما يعرف القاصي والداني فخرهما بيساريتهما وأن من عصبتهم من كان يفخر بماركسيته الفاقعة على الملأ. وهكذا أوقع منصور طلاقاً بائناً بين اليسار والديمقراطية على أنه غير مأذون في هذا الفقه.
واعتذر منصور عن تجاوزات الحركة بقول رديد عن حرج الظرف ومقتضيات الكفاح. وقال عن تجاوزاتها لحقوق الإنسان فيها بأنها من المقدور أن تقع في حركة هي حزب وجيش ولا يجوز عقلاً أن تمتحن بمعايير عالمية إنسانية لحقوق الإنسان. وجاء منصور بحكاية “دموع التماسيح” التي لا يصح تبخيس إنسان بدونها. فقد استغرب لاحتجاج لام ومشار على خروق الحركة للحقوق الإنسانية ووصف تباكيهم عليها بأنها دموع تماسيح. وقال إنه حتّى الحكومة السودانية، ذات السجل المعروف في تجاوز حقوق الإنسان، قد سبقتهم إلى ذلك التباكي. وكأن بكاء أناس مما يلغي مشروعية بكاء أناس آخرين.
وجاء منصور بحكاية “الأجندة الخفية” التي لا يصح تجريد إنسان من حق النقد بدونها. فقد انتهى إلى القول بأن لام ومشار من ذوي الأجندة الخفية الخائنة التي انطوت على هجر الكفاح واستسلام للعدو يدفعهم إلى ذلك مزيج مرتجل من اليأس والطموح الفطير. وهكذا لم يبق منصور مفردة من مفردات أدب التخوين اليساري إلا واستدعاها ليستأصل شأفة الدوائر التي تحركت في بئر الحركة المعطلة بفضل ذاكرة وشجاعة لام ومشار.
أكثر ما يفجع المرء في كتاب منصور ما يراه من تكذيبه للام ومشار تكذيباً جامعاً مانعاً. فقد جعل من ثقته في الزعيم قرنق وبيعته للحركة الشعبية سداً دون أن يسترق السمع إلى شكاة الرجلين عن ظلم الزعيم والحركة لهما. فقد عطّل منصور بهذا آلة المثقف فيه، وهي استصحاب الذاكرة على علاتها بشجاعة، ليدين الخارجين بنص وحرف مقررات مؤتمر مدينة توريت لعام 1991 الذي عقدته القيادة العسكرية العليا برئاسة قرنق خصيصاً لمحاصرة الانقسام والسيطرة على آثاره. وهذا تأليف تعودنا عليه في الكتاب المعروف عن تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي الذي ما كانت تصدر منه طبعة جديدة إلا في مناسبة فراغ الزعيم من نصر مؤزر على أهل الزيغ والضلالة والنفاق في حزبه.
وهكذا أراد شماليو الحركة من حملتهم الانتقامية على انشقاق الناصر لا إطلاق سراح الجنوبي من جنوبيته كما أراد عبد الخالق، بل ما أرادته الحركة من رهن الجنوبي بماضيه في الرق مثلاً كما رأينا علاوة على رهنه بالحركة الشعبية نفسها يلزمها لزوم الأنصاري فروة الخليفة عبد الله. والغرض من وراء ذلك اأن يجيشوا الجنوب في حركة واحدة صماء لملاقاة نظام الخرطوم الذي خرجوا لقتاله. فليس يكترثون أن تكون قضية الجنوب والسودان الجديد موضوعاً مأذونا الخلاف البركة فيها بين الجنوبيين. فمتى اختلفوا حولهما لم يكن خلافهم رحمة وسعة واستنارة بل شغباً بوجه “معركة إسقاط النظام” التي لا تنتظر.
الرابط لكتاب زميلنا محمد هارون كافي “نزاع السودان”
نزاع السودان محمد هارون كافي : Free Download, Borrow, and Streaming : Internet Archive