رنَّ هاتفي الجوّال في مساء الأربعاء 26 نوفمبر 2025، فكان الصوت من الطرف الآخر صوت الدكتور سعد أبو القاسم سعد، ينساب مثقلًا بوجع كبير، وحزنٍ عميق لا تخطئه الأذن. لم أكد أستفهم عن سبب الاتصال حتى عاجلني بالخبر الجلل: “الوالد انتقل إلى رحمة مولاه البارحة.” فكان ردي تلقائيًا: “لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.” وتعاظم الحزن حين طالعت رثاء ابن أخته أبوبكر عبد الرحمن (الرياض)، وقد سجّل فيه كلمات مؤثرة قال فيها: “لم يكن خالُنا الراحل مجرد طبيبٍ، أو أكاديمي، أو موظفٍ مرموق، بل كان أحد أعمدة الأسرة، ومن أوائل الذين كسروا حاجز الفقر والظروف القاسية؛ ليفتحوا للأجيال باب التعليم والارتقاء. كان من السابقين من أبناء الأسرة في التعليم الجامعي، ومن الرواد الذين حملوا راية العلم والمهنة في ستينيات السودان، يوم كانت الجامعة بوابة لا يبلغها إلا القليلون”. وُلد الدكتور أبو القاسم سعد العوض عام 1933، وتفتحت عيناه على دروب العلم بمدينة عطبرة، فدرس مراحله الأولية والوسطى هناك، ثم واصل الثانوية بمدرسة وادي سيدنا، قبل أن ينتقل إلى كلية الطب بجامعة الخرطوم، حيث نال فيها درجة البكالوريوس عام 1960. لم يكتفِ بذلك، بل انتقل إلى المملكة المتحدة ليتخصّص في الطب النفسي، ويعود إلى وطنه يحمل رسالة في علاج الأرواح المرهقة، قبل أجساد أصحابها. توزعت سنوات عطائه بين مستشفى الخرطوم بحري ومستشفى ود مدني، حتى هاجر عام 1976 إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث التحق بمستشفى العين، وتدرّج فيه حتى غدا مديرًا فنيًا، مشهودًا له بالكفاءة والمهنية. وحين انقضت سنوات خدمته بالعين، عاد إلى السودان ليستقر في حي الصافية بالخرطوم بحري، مستأنفًا رحلة التأمل وكتابة الذكريات. لكنّ الظروف الصحية لزوجته أعادته إلى الإمارات مرة أخرى، وفي ربوعها أسلم الروح إلى بارئها يوم الثلاثاء الموافق 25 نوفمبر 2025.
علاقتي بالدكتور أبو القاسم سعد
لم تجمعني بالدكتور أبو القاسم صلةُ رحمٍ ولا أرضٌ واحدة، غير أن المودّة لا تحتاج إلى نسبٍ مكتوب في السجلات، فهي تولد أحيانًا من نبض الذكريات، ومن خيطٍ خفيّ نسجه القدر بين من لم تتجاور بيوتهم، لكن اقتربت أرواحهم. كانت جذور تلك الصلة تمتد إلى زمنٍ بعيد، إلى زمالته لوالدي إبراهيم محمد أحمد أبوشوك في مدرسة عطبرة الوسطى، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية، وإلى صداقته العميقة بالبروفيسور الشيخ محجوب جعفر (والد زوجتي نوار). لكن الأعوام أضافت إلى هذا الخيط وشيجة أخرى، حين التحق ابنه سعد ببرنامج الماجستير ثم الدكتوراه في القانون بالجامعة الإسلامية العالمية–ماليزيا في النصف الأول من العقد الأول للألفية الثالثة، فصار اللقاء متكررًا، وصارت الزيارات تحمل عبق الماضي وصوت الحكايات القديمة، وازدادت الأيام بيننا دفئًا وبركة. وما كان يزيد تلك الصلة جمالًا رسائله التي كانت تصلنا ببيانٍ عذب وصياغةٍ رشيقة، كأنها قطعة من روح كاتبها. وفي إحدى رسائله كتب يقول: “شكرًا على رسالتكم الرقيقة وتهنئتكم الطيبة التي أسعدتنا جدًا، وكانت مشاركة محمودة عزّزت التواصل، ووثّقت علاقة العمر التي امتدت لجيلين. ظللنا نقطف ثمارها ونتفيأ ظلها الظليل، وستبقى مصدر فخرٍ واعتزاز. سعد، بفضل من الله ودعمكم غير المحدود، أكمل المرحلة الأولى، ولا يزال يتطلع إلى المزيد، وها هو يعود إليكم يقول كما قال أوليفر تويست: (I want more).” وبحمد الله حقق سعد ما تطلع إليه بعزيمة لا تلين، فنال درجة الدكتوراه في فلسفة فقه القانون. وعلى الرغم من أن والده كان يفضل دراسة قانون العمل مواكبةً لسوق الوظائف، إلا أن سعدًا كان يرى أن فقه القانون هو العمود الفقري للمعرفة القانونية كلها، فمضى فيما آمن به، وبلغ الهدف، وأتمّ الأطروحة بامتياز. ومنذ تلك الفترة بقيت خيوط التواصل بيننا حيّة لا تنقطع، بل تجاوزت الأجيال، وأعادت بناء الجسور بين القلوب كلما ابتعدت المسافات. رحل الدكتور أبو القاسم بكل خيره، وترك سعدًا فينا، لمواصلة المشوار الذي بدأه الآباء.
أبو القاسم سعد واتحاد طلاب جامعة الخرطوم
لم يكن عطاؤه حكرًا على مهنة الطب وحدها، ولا اقتصرت بصمته على عيادات العلاج ومستشفيات السودان والإمارات العربية المتحدة؛ فالدكتور أبو القاسم سعد العوض كان من طينة أولئك الذين يتسع تاريخ حياتهم لصفحات أخرى لا يُحسن تدوينها إلا من عرفوا نقشها في ذاكرة الزمن. ولعل من أبرز الفصول التي لم تنل حقها من التوثيق دوره الريادي في قيادة الحركة الطلابية بجامعة الخرطوم في منتصف خمسينيات القرن العشرين، حين كان الاتحاد آنذاك صوتًا للوطن ومنبرًا للفكرة. فقد شارك أبو القاسم سعد في انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لعام 1953/1954 في الدورة التي ترأسها محمد خير عثمان، وكان سكرتيرها عثمان سيد أحمد البيلي، وضمّت عضويتها كلًا من: موسى علي بلال، وموسى المبارك، وأبو القاسم سعد العوض، وعمر محمد سعيد، والحسن محمد الحسن، وعون الشريف قاسم. وفي دورة الاتحاد لعام 1956/1957 انتُخب أبو القاسم سعد رئيسًا للجنة التنفيذية لاتحاد طلاب الجامعة، وشاركته فيها قيادات بارزة من مختلف الاتجاهات الفكرية: عمر مصطفى المكي وصلاح أحمد إبراهيم ومحمد يس عبد العال (عن الجبهة الديمقراطية)، والحسين الحسن وعبد الحفيظ باشري وعمر محمد سعيد (مستقلون)، وجعفر شيخ إدريس ودفع الله الحاج يوسف وأحمد الطيب حرحوف (الإخوان المسلمون). وكان من أبرز أحداث تلك الدورة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فبادر الاتحاد إلى تكوين جبهة للتضامن مع مصر، واختير أبو القاسم مقررًا لها، واتخذ الاتحاد موقفًا وطنيًا متقدمًا، فجمع التبرعات المالية، وسَيَّر المظاهرات تأييدًا لمصر وتنديدًا بالعدوان الثلاثي.
وفي عام 1957، عُدِّل دستور اتحاد الطلاب لأول مرة، واعتمد نظام التمثيل النسبي للانتخابات، ففاز أبو القاسم سعد برئاسة أول دورة تُجرى بنظام التصويت النسبي (1957/1958)، وضمت اللجنة التنفيذية حينها: قريب الله محمد حامد (الجبهة الديمقراطية – سكرتيرًا)، ومحمد يس عبد العال (جبهة ديمقراطية)، وعبد الفتاح حمد وعبد الحفيظ باشري (مستقلون)، ومحمد صالح عمر وناصر السيد وعوض محمد عبد الله (الإخوان المسلمون). وشهدت هذه الدورة حدثًا وطنيًا بارزًا تمثل في تفاقم النزاع حول مثلث حلايب، فقام الاتحاد بتنظيم ندوات وتعبئة سياسية واسعة ضد الاحتلال المصري. ويروي الدكتور حاتم عبد الفاضل نقلاً عن الدكتور أبو القاسم أن أحمد سليمان اتصل به: “في الواحدة صباحًا ليوقظه من النوم ويبلغه بأن السفير المصري أعطاهم ضوءًا أخضر بأن الرئيس جمال عبد الناصر سيقبل أي مبادرة يتبناها اتحاد الطلاب بشأن تهدئة الأوضاع في حلايب.” ويضيف: “لم يهدأ للاتحاد بال حتى دُعي قادة العمل الوطني والأحزاب لاجتماع طارئ بدار الاتحاد، خرجوا منه بمناشدة رسمية للرئيس جمال عبد الناصر بنزع فتيل التوتر وسحب القوات المصرية من حلايب. وبالفعل أصدر الرئيس جمال عبد الناصر بيانًا في 21 فبراير 1958 أعلن فيه تجاوبَه مع المبادرة، مؤكدًا أن القوات المصرية “لم تُنشأ لغزو السودان، وإنما لتكون سندًا له ضد العدو المشترك.” (حاتم عبد الفاضل، الحياة السياسية في جامعة الخرطوم، ص 113-122). غير أن السبب الفعلي لتراجع الحكومة المصرية، كما أوضح الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه في كتابه “مسألة حلايب”، يعود إلى الشكوى التي قدمتها الحكومة السودانية لمجلس الأمن في 20 فبراير 1958، أما المؤتمر الجامع الذي نظمه اتحاد طلاب الجامعة فقد شكّل رافعة سياسية قوية، حيث أعلنت الأحزاب والهيئات السودانية تأييدها لموقف الحكومة، وسلم مندوبها مذكرة رسمية للسفير المصري بالخرطوم (فيصل، ص 38). وبناءً على هذه الضغوط السياسية أصدرت الحكومة المصرية بياناً، تلاه المندوب المصري في مجلس الأمن في 21 فبراير 1958، أعلن فيه قبول إرجاء بحث مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية.
وتعكس رئاسة أبو القاسم سعد للجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ثلاثة أمور أساسية:
1. القدرة على قبول الآخر والعمل معه، فقد كانت اللجنتان اللتان ترأسهما تضمّان أطيافًا سياسية متعددة ومتباينة، ومع ذلك عملوا بروح جماعية.
2. انخراط اتحاد طلاب جامعة الخرطوم آنذاك في القضايا الوطنية، وتحوّله من مجرد تنظيم طلابي إلى منصة للحوار والمبادرات الوطنية. لكن للأسف غاب هذا الدور الريادي للاتحاد والجامعة العريقة في طرح الحلول الممكنة لمعالجة أزمة السودان الراهنة وتداعياتها غير المسبوقة.
3. مهاراته القيادية الاستثنائية التي مكّنته من قيادة الاتحاد في فترة كانت تمثل ذروة الصراع بين الجبهة الديمقراطية والإخوان المسلمين، ومع ذلك استطاع أن يحفظ للاتحاد وحدته وتأثيره.
كلمة أخيرة
رحل الدكتور أبو القاسم سعد تاركًا خلفه إرثًا يصعب أن يُحصى في صفحات. إرثًا يعلّمنا أنّ القيادة لا تُختزل في منصب، وأن الوطنية لا تحتاج إلى شعارات، وأن الرجال العظماء لا تصنعهم المصادفات، بل تصنعهم عزيمةٌ صابرة، ورسالةٌ في الحياة لا تحيد عن الحق، ولا تتراجع أمام المحن. فوداعًا أيها الطبيب الإنسان، والقائد حين كان الوطن يحتاج إلى القيادة، والصوت الذي حمل همّ بلاده قبل أن يحمل لقبًا أو منصبًا. سلامٌ عليك يوم وُلدت، ويوم رحلت، ويوم يُعاد ذكرك على ألسنة الذين عرفوك وقرأوا سطور حياتك المعطاة.




