*حركة عبد الله خليل الانقلابية ..سيف الدين عبد الحميد*

هكذا يجب أن يسميها التاريخ، فالأميرالاي عبد الله خليل كان هو جامع خيوط تلك الحركة الانقلابية ضد رئاسة وزارته (يوليو 1956م — نوفمبر 1958م) باعتبارها رد فعلٍ ضد من أتوا به ومن ثم عزموا على إزاحته. ويبدو أن الأميرالاي عبد الله بك خليل كان مفرط الحساسية وسريع الغضب إزاء المردود السالب لمواقفه السياسية، فقد انقلب سابقاً من موقفه الداعي لوحدة وادي النيل في مطلع عشرينيات القرن الماضي إلى الاتجاه الاستقلالي، وكان ذلك نتيجة رد فعلٍ غاضب ضد موقف مصر الخديوية من حركة اللواء الأبيض واستدعاء كتيبتها الموجودة في الخرطوم بحيث تركت ظهر الثوار مكشوفاً لعدوهم مما سبب للبيه أثراً نفسياً بالغاً لم تمحُه السنون، ولكن فات على عبد الله خليل كما فات على بقية زملائه الثوار أن مصر الخديوية كانت شريكاً استعمارياً أصيلاً في حكم السودان تحكمها اتفاقية الحكم الثنائي الموقعة في يناير عام 1899م وهي التي تكفلت بدفع 1.554.354 جنيه أسترليني لسداد فاتورة إعادة فتح السودان من جملة التكلفة الكلية التي بلغت آنذاك 2.354.354 جنيه أسترليني، ولا تعنيها رابطة الدم والدين والنيل في شيء. وقد عبَّر البك عبد الله خليل عن موقفه النقيض الجديد بانضمامه إلى الجبهة الاستقلالية ممثلة في حزب الأمة الذي أصبح سكرتيراً له، وبعد تشكيل حكومة الائتلاف الممسوخ بين السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني في نهاية يونيو 1956م أصبح عبد الله خليل رئيساً لوزرائها حتى رُوي عنه أنه قال إنه لن يسلمها إلا لعيسى (عبد الله خليل رئيسا وبيسلمها عيسى)، وأطرف ما جاء حول هذه العبارة تعليق الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد عليها حيث قال (وبعد عامين على رئاسة الوزارة اهتز الكرسي تحت عبد الله خليل فتلفت يميناً ثم شمالاً فلم يجد عيسى فنظر أمامه فرأى عبود فسلمها إياه).
ما دفعني في الحقيقة لكتابة هذا المقال هو ما أورده غازي عبد الرحمن طه بصحيفة الجريدة بعنوان (الشيطان الأكبر) بتاريخ 10 يناير 2016م تعليقاً على ما أورده السيدان منصور خالد وأمير عبد الله خليل من حيثيات لتبرئة عبد الله من تحمل مسؤولية انقلاب نوفمبر 1958م وحده حيث يقول غازي: (جاء في إفادتيهما [أي منصور وأمير] أن السيد/ عبد الله خليل لم يقدم على تنفيذ ما عزم عليه إلا بعد استشارة الزعيمين الدينيين .. هذا تبرير أوهى من خيط عنكبوت وأقبح من الفعل ذاته .. فهو بالتضامن مع السيدين فرضوا وصاية على الشعب السوداني دون سند قانوني أو أخلاقي..) الخ. ومن ناحيتي اتفق مع د. منصور وأمير على الحيثية المذكورة كما اتفق مع غازي على ضعف تبرير الرجلين لموقف عبد الله خليل، فالأول كان سكرتيره والثاني نجله فتكون بذلك شهادتهما مجروحة ومفتقرة إلى الحياد. أما لجوء عبد الله خليل إلى السيدين لاستشارتهما فلم يكن إلا من باب التآمر عليهما، فإذا قبلنا فزعه إلى عبد الرحمن المهدي باعتباره راعي حزب الأمة فما الذي يجعله يلجأ إلى علي الميرغني وهو الخصم اللدود لحزبه بغض النظر عن الائتلاف الفج الفطير بين السيدين؟ أصل الحكاية هو ما أورده عبد الماجد أبوحسبو عن الدس الذي أضمره الأميرالاي لحزبه لما أحس بخطر زحزحته من سكرتارية الحزب وبالتالي رئاسة الوزارة، يقول أبو حسبو: (أصبحت الحكومة مشلولة شللاً تاماً، والحالة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فقد اتضح أن الائتلاف قد فشل، وأن المتناقضات فيه بدأت تطفو على السطح، وإزاء هذا الموقف فكر رئيس حزب الأمة السيد الصديق في فك ذلك الائتلاف وإقامة حكومة مؤتلفة بين حزبه والحزب الوطني الاتحادي. وبدأ بالفعل مفاوضات سرية مع رجال ذلك الحزب دون أن يشرك فيها عبد الله خليل أو حتى يخطره بها مع أنه سكرتير الحزب .. ذلك أن السيد الصديق كان يرى ألا يشترك عبد الله خليل في الحكومة الجديدة وأن يعين بدلاً عنه الدكتور مأمون شريف كرئيس للوزراء)، المصدر: أبوحسبو، جانب من تاريخ الحركة الوطنية في السودان، الجزء الأول، ص 167. إن عبد الله خليل الذي شعر أن دجاجة الوادي ستُطرد لصالح دجاجة البيت بدأ يستخدم هو الآخر أحابيله وأفخاخه فقلب الطاولة عليهم جميعاً وأعانه دهاؤه على نسج حبال الفكرة التي ضرب بها رأس السيد عبد الرحمن برأس السيد علي ورأس السيد علي برأس السيد عبد الرحمن، وهنا يجدر بنا أيضاً الرجوع إلى مذكرات أبوحسبو المذكورة وهو الذي عايش الأحداث عن قرب إذ يقول تحت العنوان الفرعي “الخطة الماكرة الماهرة”: (كان عبد الله خليل رئيساً للوزراء، وكان إلى جانب ذلك وزيراً للدفاع، وكان له أصدقاء عديدون في الجيش، فاتصل بهم وعرض عليهم أمر تسليم السلطة للجيش فتدارسوا الموقف وقرروا أن يتسلم الجيش السلطة. واجتمع عبد الله خليل بكبار ضباط الجيش الذين يثق بهم وكان من بينهم اللواء أحمد عبد الوهاب واللواء حسن بشير واللواء أحمد عبد الله حامد والقائمقام عوض عبد الرحمن صغير والقائمقام التيجاني محمد أحمد والقائمقام حسن كرار، وكانوا جميعاً من أصدقائه ومن أنصار حزب الأمة، وبعد أن وافق هؤلاء على الخطة اجتمعوا بالباقين من قيادات الوحدات …). ويستطرد أبوحسبو في رواية الخطة الخليلية الانقلابية فيقول: (بعد أن تم لعبد الله خليل إقناع الضباط بالانقلاب، كان عليه أن يقنع السيدين، السيد عبد الرحمن والسيد علي الميرغني. فماذا فعل؟ أقنع السيد عبد الرحمن المهدي بألا خلاص من الأزمة إلا بتسليم السلطة للجيش وأن كبار الضباط من أبنائه وأنهم على استعداد بعد إتمام الانقلاب أن ينصِّبوه أي السيد عبد الرحمن رئيساً للجمهورية. وأن الاتحاديين قد عادوا إلى أصدقائهم القدامى واتفقوا مع حزب الشعب على إسقاط الحكومة وإقامة حكومة ائتلافية منهما، ولمزيد من الإقناع فقد أبرز عبد الله خليل تقريراً من سفير السودان بمصر آنذاك “يوسف التني” يؤكد أن لقاءً تم في القاهرة بين أزهري وعلي عبد الرحمن لهذا الغرض، ويوسف التني عضو بارز في حزب الأمة، وكان قبل ذلك رئيساً لتحرير جريدة النيل لسان حال حزب الأمة، وكان في الوقت نفسه من أعز أصدقاء عبد الله خليل، وتعيينه سفيراً في مصر قصد منه ألا يكون السفير في مصر ممن له ميول اتحادية. اقتنع السيد عبد الرحمن برأي عبد الله خليل وأعطاه الضوء الأخضر ليسير في مخططه. بقي على عبد الله خليل بعد ذلك أن يقنع السيد علي الميرغني بضرورة تسليم السلطة للجيش، فقال له إن لديه معلومات أكيدة أن السيد الصديق والاتحاديين يتفاوضون على إسقاط الحكومة وإقامة حكومة ائتلافية بينهما يبعد عنها حزب الشعب. وأخطره بأن رجاله الختمية في الجيش وعلى رأسهم عبود سيتولون السلطة فوافق السيد علي على المخطط أيضاً)، المصدر السابق، ص 168—169. فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن أوقع بهم سعادة الأميرالاي جميعاً من كان داخل أنشوطته أو خارجها إذ لم يعش السيد عبد الرحمن الموعود برئاسة الجمهورية أكثر من أربعة أشهر بعد العملية الخليلية الانقلابية (توفي يوم 24 مارس 1959م) ونُفي من نُفي من زعماء حزب الأمة وبعض قادة الحزب الشيوعي ليلحق بهم شمسون الانقلاب نفسه منفياً في الجنوب، ولم ينجُ من المنافي إلا السيد علي الميرغني فارس الشرق الذي كان الفريق عبود من أخلص مريديه.
قد يكون رد منصور خالد وأمير صحيحاً في جانب منه (أي استشارة الأميرالاي للسيدين) ومجانباً الصواب في جانب آخر (أي أنه لم يكن وحده في تنفيذ الانقلاب)، فعبد الله خليل هو وحده الذي جمع النقائض في دائرة أحبولته الانقلابية وجعل منهم بيادق على طاولة الشطرنج كما لم يجد حرجاً في استخدام بعض أصحابه المدنيين في لعبة “كِش ملك” مثل زين العابدين صالح أبوقاضي ممن كانوا على علمٍ بالانقلاب الذي باركه السيدان المخدوعان رغم دهائهما، وحتى استشارته للسيدين لم تكن استشارة بقدرما هي خدعة كبرى ضمن بها تأييدهما للعملية الانقلابية، وما خُدع السيدان إلا لأنهما كانا يتربصان ببعضهما رغم زواجهما الكارثي يوم 5 يوليو 1956م وإلا فكيف يباركان انقلاباً على حكومتهما الائتلافية؟ لقد كان عبد الله خليل بناءً على هذه الحيثيات هو أول من سنّ سنة الانقلابات العسكرية في سودان ما بعد الاستقلال. لقد كان حرياً به أن يقدم استقالته كرامة وسلامة دون أن يزج بنفسه في مستنقع المؤامرات السياسية الآسن الذي أفضى به شخصياً إلى المنفى السياسي مع بقية المنفيين. وللتأكيد على أن عبد الله خليل كان هو الأول والآخر في صناعة الانقلاب يجدر بنا إيراد شهادة الفريق عبود أمام لجنة التحقيق وهي لجنة كُونت خصيصاً للتحقيق والتعرف على الظروف التي تم فيها انقلاب عبد الله خليل، يقول الفريق عبود: (قبل انعقاد البرلمان بحوالي عشرة أيام جاءني عبد الله خليل وقال لي: الحالة السياسية سيئة جداً ومتطورة ويمكن أن يترتب عليها أخطاء جسيمة ولا منقذ لهذا الوضع غير أن يستولي الجيش على زمام الأمر. فقلت هذا لضباط الرئاسة أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وآخرين. ومرة ثانية جاءني عبد الله خليل فأخبرته أن الضباط يدرسون الموقف. فقال لي: ضروري إنقاذ البلاد من هذا الوضع ثم أرسل لي زين العابدين صالح أبو قاضي ليكرر لي نفس الكلام، والضباط كانوا وقتها يدرسون الخطة وتنفيذها، وقبل التنفيذ بثلاثة أيام جاءني عبد الله خليل في الرئاسة ليطمئن على الموقف، فقلت له: كل حاجة تقريباً انتهت وستتم قبل انعقاد البرلمان، فقال لي: ربنا يوفقكم… الخ)، المصدر السابق ص 171 172. في هذه الجزئية المقتضبة من التحقيق الذي أجري مع الفريق عبود بعد انتفاضة أكتوبر 1964م نلاحظ أن عبد الله خليل كان يلهث متقطع الأنفاس وهو يحث الخطى بين مقر رئاسة الوزارة ووزارة الدفاع لإكمال (الطبخة) التي لم يكن للفريق عبود فيها إلا ما جاء على لسانه أنه كان ينفذ تعليمات صادرة له من رئيس الوزاء ووزير الدفاع حتى قيل إنه طلب أمراً كتابياً من عبد الله خليل لإتمام الانقلاب!
إذن إن كانت هناك يدٌ أخرى تدخلت في العملية الانقلابية وجعلت د. منصور خالد والسيد أمير عبد الله خليل يؤكدان أن البك لم يكن وحده في الخطة الانقلابية فقد تكون تلك اليد يداً خارجية يعرفانها هما أكثر من غيرهما. إن دفاع د. منصور عن موقف عبد الله خليل الانقلابي وتعاطفه معه بحكم الصلة الديوانية معه في سكرتارية مجلس الوزراء الائتلافي ودفاع أمير عبد الله خليل عن موقف أبيه لا لشيء إلا لأنه أبوه لهي ظاهرة تجعلنا نعيد النظر في قراءة الوقائع التاريخية التي تورّث لناشئة التلاميذ والطلاب ممسوخة فيتعاطوها من كتب المناهج الدراسية التاريخية بأخطائها المصطنعة التي تلائم أهواء المورِّثين وأمزجتهم.

سيف الدين عبد الحميد

مقالات ذات صلة