==================================
لما استشرت بعض الممارسات الشاذة عن الفطرة السليمة اتجهت أنظار بعض المجددين اول ما اتجهت الي تصحيح مفاهيم المسلمين في مسائل تتعلق بالعبادة (اعتقاداً) و(ممارسات عملية) فنقبت عن الأدلة التي تؤدي الغرض، فالّفت ودرّست ما تم تجميعه الي العامة، واصطفي بعضهم تلاميذ خصهم بما انتهي إليه علمه ليقوموا بواجب النشر جماعة للكافة، وكلٌ باسلوبه وحدود ما انتهي إليه فهمه وفقهه، دون أن تكون لهم مدرسة جامعة واحدة موحِّدة لتبادل المفاهيم والأفكار والاجتهادات، وذلك لبعد المسافات الجغرافية بينهم وصعوبة التواصل الفيزيائي، وقليل منهم من التام صفه بقرينه أو من يعلوه مكانة علمية فتصاهر معه معرفياً،
وكعادة العلماء في الحقب التاريخية المتعاقبة علي الخلافة الإسلامية الذين لم تكن لهم مساحة مفتوحة للفتيا الا فيما وبما يسمح به سلطان زمانهم، ومن خرج أو خالف فمصيره الحبس أو القتل، ولذا فإن العلماء دائماً ما يكونون ضحية اجتهاداتهم المخالفة للنهج السائد لأنهم لا يملكون الا اللسان والقلم، وأما أولئك فيملكون قوة الحديد والنار، ولذا فقد كان باسهم علي العلماء شديد ووقعه عليهم اليم، مما جعل الحركة العلمية الشاملة مشلولة.
ولذلك انحصرت جل اجتهاداتهم العلمية في مسائل العبادات المحضة، والعادات والتقاليد المتعلقة بالاحوال الشخصية والاجتماعية.
ونحن في السودان قد دخل إلينا الإسلام سلماً وليس حرباً بغير ما جري في أغلب البلدان التي انضمت الي الجغرافيا الإسلامية عن طريق الغزوات والفتوحات،.. ثم قامت عندنا بعدئذ اول دولة إسلامية بسنار عقب سقوط الأندلس آخر القلاع الإسلامية الحصينة. وكان نهج الحكم في الدولة السنارية لا مركزي، والتعليم ومؤسساته كان اهلياً لم تكن الدولة تنفق عليه أو تتحكم في اجتهادات علمائه أو تصرفات عامة شعبه واشياخهم، مما خلق قدراً وافراً من الحرية أصبحت هي السمة السائدة حتي الان خلافاً لبقية الشعوب من حولنا ، مما يؤهلنا لصناعة مؤسسات تغذي العلوم الإنسانية بالهدي الرباني..
جماعات ودولٌ اختارت نهج العلماء الذين عاشوا في عهود الحجر والاضطهاد الا قليلا منهم ، وسلك بعضهم ذات المسلك وحصروا انفسهم في ذات الدائرة المحدودة المتخصصة في تصحيح المفاهيم المتعلقة بالعقائد والعبادات، ثم امتدت قليلاً الي تبني النهج المتحجر ونقل ذات الفتاوي المتعلقة بالتقاليد المجتمعية لتلك الشعوب التي تعيش بذات النهج التاريخي التقليدي، بل واستنشاقها وتشربها سلوكاً وتبشيراً. مما أحدث قطيعة مع مجتمعهم، بل وخلق صراعاً داخلياً بين مدرستين، واحدة تدعو للتناغم مع وطن الجغرافيا، واخري تجتذب اهل الوطن الي الاغتراب صبغةً ومظهراً، مما أحدث ثنائية مصطرعة متجاذبة اقعدت بعض الجماعات عن الانطلاق الي الآفاق الأرحب في الفضاء المتاح لان يستعيد فيه النهج الراشدي المخنوق تاريخيا انفاسه.
في تنقلاتها من مرحلة لمرحلة نشأت بعض معاهد لتمثل مدرسية علمية تكشف فيها عن النهج الذي استنه السالفون المرتشدون في التحقيق العلمي، وأنشأت مراكزاً للبحوث والدراسات الإسلامية ، ولكنها لم تبارح مكانها في المحدودية، مثلها مثل مستشارية التأصيل التي ابتدعت لتكون مرآة للحاكمين في تصرفاتهم وللدولة في وجهتها..
و أعلن البعض ما سمي بالمجالس العلمية، ولكنها بدون رؤيا ولا أهداف محكمة وحاكمة …
وبالتالي فإن شأن التجديد والاجتهاد العلمي المتفقه المستخلف للنهج النبوي في التبيان والتشريع المتجدد يتطلب مؤسسة جامعة ذات تخصصات متنوعة تحتوي وتهضم لتغذي كل مجالات الحياة بما يستقيم به الطريق ويهدي الي إنتهاجه وسلوكه ..